هل اكتمل الإسلام؟


محمد حبش

الجواب التقليدي: نعم، بالطبع، وكان ذلك يوم نزلت الآية: {اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينًا}.

تبدو هذه المسألة اتفاقية، بحيث لا تقع فيها على قولَين بين الفقهاء، فالدين اكتمل يوم موت رسول الله، ولم يبق إلا الاتباع والتقليد، وفي الرواية تم استنطاق النصوص وحملت ما لا تحتمل، حتى قال سلمان: “لقد علّمنا الرسول كل شيء حتى (قضاء الحاجة)، فنهانا أن نستقبل القبلة أو نستدبرها وأن نستنجي بعظم أو روث أو رجيع”، وباتت الطريقة المثلى لمعرفة الماضي والحاضر والمستقبل هي الحصول على رواية مرفوعة إلى الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام.

استمرت نزعة الاتباع الطاغية التي نشأت من عبادة اللحظة الداهشة، حتى أصبح خطاب المعرفة السائد يتمثل في قول القائل:

كلُّ العلوم عن القرآن مشغلةٌ       إلا الحــديث وإلا الفقــه في الديـن

الدين ما كان فيه قال حدثنا       وما سوى ذاك وسواس الشياطين!

وفي هذا السياق؛ أصبح التيار السلفي الملتزم بخيارات السلف الأول هو صورة الإسلام الاتباعي البيوريتاني، ونموذجه الذي تقدمه المنابر كل جمعة، ولكن واقع الأمة الإسلامية -في صعودها الحضاري- قدّم قراءة مختلفة تمامًا للإسلام، وقدّم في وعيه الفقهي والتشريعي ألفَ دليل على أن الإسلام مشروعٌ قابل للاغتناء والتطوير والتراكم عبر التاريخ!

نزلت الآية (آية إكمال الدين) في حجة الوداع، أي في العام العاشر للهجرة الموافق 631 للميلاد، ولكن الدين الذي أعلن القرآن اكتماله لم يكن إلا بداية الانطلاق لنشاط حضاري عظيم، ومقدمة لاجتهادات متتالية متراكمة، أضافت الكثير من الإبداع الحضاري والمعرفي والفكري، وزادت الإسلام غنى وثراءً واكتمالًا.

في السياسة، فإن سائر أنظمة السياسة الإسلامية من الخلافة وولاية العهد والسلطنة والولاة والقضاة وقادة الجند ووزير التنفيذ ووزير التفويض مثلًا، وهو النظام الذي أصله الفقهاء نموذجًا للحكم الإسلامي، ووضعت في خدمته آلاف النصوص الفقهية والنبوية، في كثير من الأحيان لم يكن قد وُجِد أصلًا، في يوم حجة الوداع، ولم يكن لدى أحد من الصحابة فكرة عن هذه الأنظمة التي هي اجتهاد بشري محض لتدبير أمور الراعي والرعية.

في الاقتصاد، فإن صك العملات، ونظم البنوك الإسلامية والمرابحة والمزارعة والمهايأة والمساقاة والتورق التي ابتكرها الفقهاء مثلًا لم تكن قد ذكرت في النص الكريم، ولم يكن ليعرفها أحد من الصحابة، يوم نزل نص إكمال الدين.

وبعيدًا عن هذه المطالعات المشوشة، فإن المحراب الذي نصلي فيه اليوم على هيئة تجويف في الحائط، لم يكن كذلك في عهد النبوة، ولم يكن في المساجد محاريب على هيئة محراب مريم ويحيى، ومن المؤرخين من ينسب أول محراب إلى عثمان بن عفان، ومنهم من ينسبه إلى عمر بن عبد العزيز، ولكن الأشهر أن أول محراب في الإسلام هو محراب عقبة بن نافع في القيروان عام 50 هجرية. والمئذنة التي صارت في العالم الإسلامي رمزًا للمساجد والإيمان، وارتفعت فوق الحرم المكي والحرم المدني، وصارت رمز الإسلام كله، لم تكن يوم حجة الوداع قد خلقت بعد، ولم يكن أحد من الصحابة يعرف المئذنة أو يتصورها، وليس في القرآن ولا في كتب السنة أي ذكر لكلمة مئذنة قط، ولا حتى أي إشارة إلى معناها! والقبة التي صارت فخر المعمار الإسلامي وأكثر معالم الإسلام شهرة في الأرض لم يكن لها وجود يوم اكتمال الدين، ولا يزال كثير من السلفيين الأصوليين يعتبرون المآذن والقباب والمحاريب المزخرفة بدعًا منكرة، ويعتبرونها من أكبر الكبائر، إذا أقيمت على ضريح رجل من الصالحين.

وفي التشريع، فإن السنة النبوية التي صارت المصدر الثاني للتشريع، وأصبح لها علوم كثيرة في الرواية والدراية والاصطلاح على الصورة التي استقرت عليه في البخاري ومسلم، والكتب الستة، ولم يسمع الصحابة شيئًا عن الصحيح والحسن والضعيف، والمسلسل والعزيز والشاذ، وغيرها من أوصاف الحديث المصطلحية، ولم يكن ليتصورها أي صحابي من أولئك الذين سمعوا نص “أكملت لكم دينكم”، وكانت السنة محض روايات متناثرة يمنع الخلفاء من تدوينها وكتابتها، وتم جلد عدد من الرواة، في زمن عمر بن الخطاب، لاحترافهم رواية السنن، ولكن ذلك كله تغير فيما بعد، وأصبحت السنة النبوية، بدءًا من عهد عمر بن عبد العزيز المصدر الثاني للشريعة.

ومصادر التشريع التي ظهرت فيما بعد على يد الفقهاء الكرام، كالإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب والعرف والذرائع وغيرها من المصادر، لم يسمع بها الصحابة الكرام، ولم تخطر ببال أحد منهم، ولا يوجد في تراث أي من مشاهير الصحابة استخدام هذه المصطلحات، ولكنها صارت خلال التاريخ الإسلامي آلة استنباط الأحكام وتأصيلها.

بل إن القرآن نفسه لم يكن قد اكتمل تدوينًا ونسخًا ونقطًا، ولم يكن قد صار مصحفًا يمكن القراءة منه والوصول إليه، ولم يكن قد كتب بين دفتين، ولم يكن قد نسخ في النسخ، ولم يكن قد عرف نقط الإعجام، ونقط الإعراب، ولا السجدات ولا الوقوف والابتداء ولا الأحزاب ولا الأرباع ولا أسماء السور، ولا طباعة المصحف ولا تسجيله وتصويره وبثه وترميزه، وهي إضافات وتطويرات وابتكارات مهمة، وقعت كلها بعد نص “أكملت لكم دينكم” بعهد طويل.

إن هذه البدع المتتالية التي أسهمت في إغناء الإسلام وتحضره وتنوره لم تكن حاضرة على الإطلاق بصورتها التي استقرت عليه، يوم تم الإعلان عن كمال الدين والشريعة.

الواقع أن الأمر في غاية اليسر، إذا تفهمنا النص القرآني في سياقه، فقد تمت النعمة على الناس بتوحدهم وقيامهم، وتم تشريع العبادات المفروضة، وتم تحديد عدد محدود من المحرمات، وانطلق العقل الإبداعي في البحث والاختيار، فيما يصلح دينه ودنياه. وإكمال الدين هنا هو اكتمال استعداد الأمة للإبداع والاجتهاد والتطوير والتحديث، وهو الباب الذي لم يغلق أبدًا، مذ فتحه رسول الله إلا في عصور الانحطاط والسقوط الحضاري. واكتمال الدين هو يوم ختم النبوة وميلاد العقل الاستدلالي والانتقال بالبشرية من عصر الغيب إلى عصر الشهادة، ومن ضباب الخوارق إلى ضياء السنن.

هل من مصلحة الإسلام أن يكتمل؟ الجواب بالقطع: لا؛ فالاكتمال هو نهاية الإبداع والتجديد والاكتشاف، هو نهاية ثورة العقل وبدء مرحلة الهمود، ونقول -دون أدنى شك- إن التراث الذي يملكه الإسلام اليوم أغنى بمئة مرة من التراث الذي كان بيد الصحابة والسلف، فالإسلام اليوم ديوان حضارة تعاقبت في بنائها وتدوينها وتجربتها آلاف العقليات المتميزة والعبقريات النادرة، وقد أنجز هؤلاء إبداعهم وفكرهم وخبرتهم تحت مظلة هذا الإسلام، وأغنوا به تجربته وتراثه وحضارته.

العالم الطبيعي لا يعرف الاكتمال أبدًا، وقد خلقه الله أطوارًا، ولا يزال يبعث نفسه في صعود حلزوني متتابع وفق ديالكتيك خلاق يبعث من ذاته بذور قيامه، ويحقق جدل القيام والانطلاق في كل لحظة.

يذهب علماء الاجتماع قاطبة إلى تأكيد حيوية الأمم، من خلال قدرتها على الإبداع والخلق، وأنه حين تموت هذه الإرادة تتحول الأمم إلى تيارات ببغائية تكرر القديم، وتعجز عن الذهاب إلى المستقبل، والعالَم -في صيغتَيه البيولوجية والاجتماعية- عالَمٌ ثائر لا يهدأ، كما قال هوايتد: “العالم ليس حقيقة قارة، إنه جدل متلاطم”! والجدل ليس قاعدة بيولوجية بحت، بل هو قاعدة اجتماعية خلاقة، والاكتمال الذي أشارت إليه الآية ليس إلا اكتمال الاستعداد للانطلاق والاجتهاد والتطوير، وهو ما قامت به الأمة الإسلامية على أتم وجه، خلال تاريخها الطويل.

لقد قصدت أن أقول إن العقل شهد انطلاقته وقيامته، يوم أعلن اكتمال الدين، وهذا عكس ما تطالب به تيارات الجمود والهمود الرافضة لكل تنوير يقوم في فضاء العالم الإسلامي، تحت عنوان: إن الدين قد تمّ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.




المصدر