الحرية والعنف “رصاص بندقية يصنع الحرية لأمتي الأبية”
8 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
أنجيل الشاعر
[ad_1]
يردد التلاميذ في المناطق التي يسيطر عليها النظام أغنية أو نشيدًا أو لا أدري ما هو، يقول: “رصاصُ بندقية.. يصنع الحرية…”، وتعرض الإعلانات صورة أطفال يتنكبون بنادق، “من أجل الحرية”، وهم لا يعرفون من الحرية سوى ما يتلقونه من الكبار بالتلقين، شأنهم شأن الأجيال السابقة التي كانت تتغنى بـ “الوحدة والحرية والاشتراكية”، من دون أن تعني لها هذه الكلمات شيئًا مختلفًا عمّا تقوله السلطة وما تمارسه.
كيف يستطيع شاعر أو فنان أو مثقف، أن يحيل مفهوم الحرية إلى البنادق والرصاص؟ أو يعتبر أن الحرية تُنتزع من الآخرين انتزاعًا؛ لتصبح ملكًا لأحد ما، في حين أن الحرية لا تؤخذ ولا تعطى، بل تمارس وحسب؟
اختزال الحرية في البنادق والرصاص هو اختزال للذات الإنسانية، وتنكرٌ للحريات الشخصية والفكرية، ولحريةِ الفرد والمجتمع معًا. وحصرُ الحرية في السلطة السياسية أو العسكرية، يجعل تلك الحرية تعني مفهومًا واحدًا فقط، هو حرية السلطة في أن تقول ما تشاء، وأن تفعل ما تشاء.
إشكالية الحرية هي، بلا شك، من أقدم الإشكاليات الفلسفية وأعقدها، منذ أرسطو إلى وقتنا الحالي، وقد اكتسبت حيزًا مهمًا في الفلسفة المعاصرة، على أنها مفتاح المشكلات الفلسفية جميعًا، والواقع أن مشكلة الحرية من أكثر المسائل الفلسفية اتصالًا بالعلم والأخلاق والمجتمع والسياسة. الحرية -في المجتمعات المضطهَدة- هي مجرد إشكال نظري، يثيره العقل الإنساني الباحث عن المعرفة على سبيل حب الاستطلاع؛ حتى يعرف ما إذا كان حرًا أو مجبرًا، أما في الحقيقة فهي مشكلة حيوية لا تنفصل عن وجودنا نفسه، على اعتبار الحرية مبدأ الوجود الإنساني وغايته.
فقد ناضلت المجتمعات المستعمَرة على مر التاريخ من أجل حريتها، ولكنها لم تكسب الحرية بعد “التحرر من الاستعمار”؛ ما يؤكد أن هناك فرقًا جوهريًا بين الحرية وبين التحرر من الاستعمار أو من الإقطاع أو من سلطة طبقة أو طغمة أو حزب. ولا نجازف إذا قلنا إن مفهوم الحرية المدنية، الحديث والمعاصر، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالثورة/ الثورات الديمقراطية في الغرب، التي قوضت النظام الإقطاعي وسلطة النبلاء ورجال الدين الدينية (الإكليروس). ولا جدال في أنها اقترنت، بما يسمى الكفاح المسلح، أي مواجهة العنف بالعنف. ولكن هذا الاقتران كان -وما يزال- يقتصر على الجانب السياسي من الثورة/ الثورات المعنية، بغية التحرر من الاستبداد الديني والسياسي والإذلال الاستعماري، وكان كتاب “فرانز فانون” (معذبو الأرض) دليلًا واضحًا على مجابهة العنف بالعنف، إذ يدعو فيه شعوب المستعمرات الفرنسية إلى الكفاح المسلح، لنيل حريتها واستقلالها.
قدّم الكتاب “جان بول سارتر” مؤيدًا دعوة فانون، ربما بدافع التعاطف مع الشعوب المستعمرة، أو احتجاجًا على سياسات بلاده. لكن ثورات الربيع العربي، ولا سيما الثورة السورية السلمية، قدمت نموذجًا جديدًا للثورة، في القرن الحادي والعشرين، يتصل بالأبعاد الاجتماعية والمعرفية والثقافية والأخلاقية للثورة/ الثورات الديمقراطية، التي شهدتها أوروبا، ويؤكد تناقض الحرية والعنف، بخلاف الأحزاب العقائدية وما تسمى حركات المقاومة، التي تتبنى “الكفاح المسلح”، والتي لا تقاوم في الواقع سوى إمكانات التمدن والتحول الديمقراطي لدى شعوبها.
تعدّ الحرية اليوم حاجة ماسة للمجتمعات التي لم تنهض بعد من خلال كفاحها المسلح، إلى مناخ ملائم للحرية وقِيَمِها، وهذه مسألة ملحة، في الوقت الحالي. يعود السبب في عدم نهوض هذه المجتمعات إلى سطوة الفكر التقليدي على الثقافة والمناهج التعليمية والإعلام، قبل أن نتحدث عن الأنظمة السياسية وأساليب ممارستها الاستبدادية؛ الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة العناية بمفهوم الحرية ومرادفاته، من خلال حرية التفكير والتعبير التي تساهم في توسيع دوائر الحرية/ الحريات، في هذه المجتمعات.
إذن كل حديث عن الحرية، من دون تحديد أو صفة، يؤول إلى التعصب، فالحرية المدنية لكل فرد هي الحرية الأهم على الإطلاق، وتشمل الحرية السياسية والحرية الدينية والحرية الاجتماعية، وحرية التفكير والتعبير، لا حرية التلقين والترديد، وهي مقابل الحرية الطبيعية أو الحرية البدائية للفرد، والفرد دومًا يُقصد به الذكر والأنثى.
تركيز سلطة الدولة المركزية وتسلطها على مؤسسات الدولة، يحد من حرية الأفراد والمجتمع على حد سواء، ويحد من إبداعهما معًا، في إعادة إنتاج المجتمع المدني الحديث، ويحد من قدرة الأفراد على صنع القرار بإرادة حرة ومستقلة؛ بذلك تصبح الحرية امتيازًا تمنحه السلطة لبعض الأفراد الذين هم أحرار بالضرورة. وهذه لا تمت إلى الحرية بأي صلة.
هل نشعر نحن -السوريات والسوريين- بحريتنا/ حرياتنا، من خلال الرصاص والبنادق، أم أنها توجه إلى صدورنا من جميع الأطراف المتنازعة على الأرض السورية، لتكون حريتنا هي الموت، أو بتعبير آخر، التحرر من الحياة؟
لماذا نتساءل والوجود الإنساني في هذا الكون هو وجود حر، أو وجود حرية تضع نفسها موضع التساؤل، فالحرية وحدها هي التي تستطيع أن تسائل عن نفسها في خضم معركة الوجود، ونحن لا نستطيع أن نكشف عنها إلا في لب ذلك السؤال، فهي “ليست واقعة نتقبلها على الرغم منا أو حقيقة ضرورية لا نملك إلا أن نخضع لها، بل هي عملية روحية، تعبّر عن مقدرتنا على تحرير ذواتنا”، حسب تعبير كانط.
لم يزل الحصار الذهني في المجتمعات العربية عبر المقولات الشائعة “دفاعًا عن الأرض والعرض”، “وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق”، و”الشهادة أو النصر” سائدًا حتى اليوم، تغذيه السلطات الاستبدادية، من خلال احتكارها لجميع المؤسسات الحكومية، ومحاصرة الحريات الشخصية بالشريعة الإسلامية. نرى هذا الحصار جليًا في الحكم الصادر بحق الصحفية السودانية “لبنى الحسين” التي تعمل ممثلة لدى الأمم المتحدة، لإحلال السلام في السودان، حسب البند 152 من قانون العقوبات السوداني، والذي يقضي بعقوبة تصل من 40 إلى 152 جلدة، وذلك لارتدائها لباسًا “فاضحًا”، حسب رأي المحكمة، مع أنها كانت ترتدي بنطلونًا وقميصًا طويلًا. كما أن السلطة تهيمن على المشروع الأكثر أهمية في تطوير المجتمع وإعادة إنتاجه، المتمثل في المؤسسة الثقافية ومؤسسة الإعلام، وهذا شكل من أشكال العنف الرمزي الذي يعبر عنه دومًا “بيير بورديو” في حديثه عن السلطة المركزية المؤسِسة للاستبداد. فالاستبداد لا يلغي الحرية/ الحريات فقط، إنما يلغي الفردية والاختلاف.
“نفي الفردية والاختلاف واحتكار الحقيقة هما التعبير الأكثر فظاظة عن ضياع الحرية، حتى يومنا”، حسب تعبير جاد الكريم الجباعي. تلك الشعارات والمقولات، صنعت رأيًا جمعيًا من خلال بثها في وسائل الإعلام المتعددة، وترسيخها في أذهان التلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات، كما أن زيادة بناء الجوامع والمعاهد الدينية للإناث والذكور، كلًّا على حدة، صنعت تعصبًا دينيًا وطائفيًا ومذهبيًا، وعدم تقبل الآخر والاعتراف به. الكفاح المسلح تحت مسمى “الدفاع عن الحرية” هو قتل للإنسان وقتل للإنسانية، داخل كل فرد من أفراد المجتمع.
لغة الكفاح والنضال وأهازيج البطولة والشهادة، لغةٌ قاتلةٌ بلا ريب، تقتل ذاتنا الحرة والمستقلة، وتقتل بالفعل مجتمعات بأكملها، وتمنعها من النهوض من سباتها.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]