المعارضة السورية واختبار التبدلات المحتملة


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أولًا: المعارضة السورية مسيرة متعثرة

ثانيًا: منصات المعارضة بين الثورة والثورة المضادة

ثالثًا: المعارضة السورية في مواجهة تبدلات المواقف الدولية

رابعًا: خاتمة

مقدمة

“ستشهد الأشهر المقبلة بداية تحولات نوعية في الأزمة السورية، ونأمل بتكوين صورة مختلفة عن سورية قبل نهاية العام الحالي، عبر تحضير مؤتمر سلام في جنيف بعد استئناف اجتماعات جنيف في تشرين أول/ أكتوبر والثاني (نوفمبر) القادمين”. يبدو دي مستورا في هذا التصريح مُحلّقًا في تفاؤله، بعيدًا من الواقع المرّ المهيمن على الساحتين العسكرية والسياسية في سورية، أقله لحجم التعقيدات التي تكتنف هذا الواقع، والتدخلات الخارجية وتضارب المصالح والنفوذ. ومع الأخذ في الحسبان أن الموفدين الأمميين عمومًا، لا يكترثون بالبعد الأخلاقي للملفات المكلفين بحلها، ولا بعدالة قضاياها، وينصبّ جلّ اهتمامهم على نجاحهم في مهماتهم بأي طريقة؛ لهذا يُحاول دي مستورا الضغط على أطراف الصراع، وبخاصة المعارضة السورية، كي تُكيّف نفسها مع مشروع قرار دولي، يوحي بأنه بات في جيبه لحلّ الملف السوري، وعليهم اللحاق به حتى لا يخرجوا من المعادلات. وهذا التكيّف يقتضي، في أحد وجوهه، ضمّ منصّات المعارضة الأخرى التي أوجد لها مكانًا قرب طاولة جنيف بمناوراته واتكائه على القرار الدولي رقم 2254 الذي جاء على ذكر هذه المنصات، ما يدفع المعارضة للتخلي- نسبيًا- عن ثوابتها السابقة حيال الحل السياسي الذي أسست له قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي بدءًا ببيان جنيف 1، وانتهاءً بالقرار 2254، التي تقتضي إنجاز عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الديمقراطية، وربما يريد أيضًا أن يوحي بأن هناك إمكانية للبحث عن بدائل في حال فشلت المعارضة بتلبية المطلوب منها.

بالتزامن مع تصريح دي مستورا، يأتي تصريح جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، الذي يقول فيه “إن ملامح الحل في سورية أصبحت واضحة”، ما يدلل بدوره على وجود توجّه دولي، جرى التعبير عنه بأكثر من موقف، ومن جانب أكثر من دولة، للضغط على المعارضة السورية ممثلة بـ (الهيئة العليا للمفاوضات)، التي انبثقت من مؤتمر الرياض سندًا لمقررات مؤتمر فيينا 2 والقرار الدولي رقم 2254  لعام 2015 بصفتها ممثلًا شرعيًا للمعارضة السورية في مباحثات جنيف والبحث في حل سياسي للقضية السورية، وهذا الضغط الذي يستهدف هيئة الرياض، قد لا يكون بقصد حلّها لمصلحة كيان جديد، قياسًا على ما حصل لـ (المجلس الوطني السوري)، حين استبدل بـ (ائتلاف قوى الثورة والمعارضة)، وبعده بهيئة الرياض التفاوضية، بل في الغالب لإغراقها وتعويمها تحت دعوى التوسعة، وضم منصات أخرى لا تتبنى بيان الرياض، وخلخلتها من الداخل وتطويعها للقبول بتسوية سياسية، تسعى الدول المتدخِّلة لإنضاجها من دون الالتفات لأهداف الثورة، التي كلّفت حتى الآن مئات ألوف الضحايا، عدا عن التهجير المليوني، والتدمير الهمجي الذي لحق بعمران سورية، وهنا يمكن البحث بالخيارات المتاحة أمام المعارضة السورية لمواجهة التحديات الجديدة، ودراسة احتمالات وقوعها في المطبات السابقة ذاتها مرة أخرى.

أولًا: المعارضة السورية مسيرة متعثرة

فرضت طبيعة الثورة السورية، من حيث كونها ثورة عفوية لم يقُدها حزب ولا حركة مجتمعية مُنظّمة، نمطًا مختلفًا من الأداء السياسي، افتقد ميزة القدرة على القيادة والتحكم اللازمين، وشابه كثيرٌ من الارتجالية والنواقص التي تأتّت من عوامل موضوعية، زادها البعد الذاتي لبعض المعارضين الذين تصدروا المشهد إرباكًا وتعطيلًا، إلا أن العامل الخارجي، كان له الدور الوازن في إيصال مسيرة المعارضة إلى النتيجة التي تقف عندها اليوم.

لقد فجّر الشباب السوري ثورة ستكون فريدة في إبداعاتها وفي استعدادها للتضحية، ثورة وُجِدت بلا رأس وبلا برنامج عمل، لكنها حملت أهدافًا مشروعة ونبيلة على رأسها الحرية والكرامة والوطنية السورية الجامعة، وعجزت قوى المعارضة التقليدية بحكم بنيتها الحزبية المغلقة المتكيفة مع الاستبداد المديد عن الانخراط الموحد والفاعل في النشاط الثوري الآخذ بالتمدد والتبلور، واكتفت باللحاق بركب الثورة عند بعضها، أو العمل على إعاقته عند بعضها الآخر. من جهته، ركز النظام في خطته الأمنية في مواجهته للثورة على فئة الشباب، فقتل واعتقل كثيرًا منهم، واضطُر من أفلت من قبضته الأمنية إلى الفرار خارج الحدود.

بدأت الساحات الخارجية تشهد حراكًا محمومًا من قبل الوافدين من الداخل، أو الذين وفدوا إليها من أبناء الجاليات السورية المغتربة، يبحث في تشكيل مرجعية سياسية تمثله أمام العالم الخارجي، فكثرت المؤتمرات في إسطنبول وأنطاليا والقاهرة وبروكسل والدوحة، وكثرت المبادرات التي لم تُسفر عن نتيجة طوال الأشهر الخمسة الأولى من الثورة، وأخيرًا أُعلن في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 من اسطنبول عن تشكيل (المجلس الوطني السوري) الذي ضم خمسة كيانات سياسية كممثل شرعي للمعارضة السورية، وخرجت تظاهرات في إحدى أيام الجمع، تمنح الشرعية للمجلس، كما حاز على شرعية دولية تمثلت بتأييد أكثر من مئة دولة له، وتشكّل ما عُرف بـ (مجموعة أصدقاء الشعب السوري) في مؤتمر تونس.

أغرق (المجلس الوطني) نفسه في مهمات ليست له، كالنشاط الإغاثي والطبي وغيرها من أوجه النشاط، التي راحت تُستخدم لتعزيز نفوذ (الإخوان المسلمون)، أو البحث لدى الدول عن أدوار جانبية لبعض المستقلين فيه. وقد دفعت الولايات المتحدة، التي لم تكن راضية عن تركيبة المجلس بعد عام من تأسيسه، نحو تشكيل جديد، وهكذا ظهر (ائتلاف قوى الثورة والمعارضة) في مؤتمر الدوحة الذي عُقد في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، واضطر المجلس إلى الانخراط فيه ككتلة لها حصة في تركيبته.

ارتكب الائتلاف الأخطاء نفسها، فتورط بتشكيل حكومة استهلكت جلّ عملها في نشاط غير سياسي وخارج الأرض السورية، بدلًا من أن يعمل على تعميم ودعم مجالس محلية فاعلة، تربطه بشكل أوثق بقاعدة الثورة، وبدا أن المسار العسكري للثورة راح يتباعد أكثر عن المسار السياسي، وبخاصة مع ظهور تنظيمات عسكرية بعضها إسلامي التوجّه على حساب (الجيش السوري الحر)، وسرقت إنجازاته ثم حجّمتها، وراحت الدول من جديد، تدفع الائتلاف إلى مزيدٍ من التوسعات بحجة تعزيز شرعيته، هذه التوسعات التي عملت على ضمّ كيانات صغيرة شُكِّلت على عجل، أو أفراد، “ميّعت” الائتلاف وعطّلت عمله. ومرة أخرى، وبعد مؤتمر فيينا 2 والقرار الدولي الذي تبعه، وضعت الدول المتدخلة الشرعية على رأس (الهيئة العليا للتفاوض) التي انبثقت من مؤتمر الرياض الذي عُقد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2015، وشكّل الائتلاف أغلب أعضائها، إضافة إلى هيئة التنسيق وبعض المستقلين، وكان مطلوبًا من هيئة الرياض أن تقود المفاوضات مع النظام في مسيرة جنيف التي استؤنفت في نيسان/ أبريل 2016 وفقًا لمنطوق البيان 2254.

أكدت هيئة الرياض في بيانها التأسيسي ثوابت وأهداف الثورة، ومنها إسقاط النظام، وقرارات الشرعية الدولية، وفي مقدّمها بيان جنيف 1 لعام 2012، والذي ينص أهم بند فيه على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ثم قدمت الهيئة رؤيتها للحل السياسي وللمرحلة الانتقالية إلى (مؤتمر النواة الصلبة لأصدقاء الشعب السوري) الذي عُقد في لندن في تموز/ يوليو 2016، لكنها باتت تتعرض من جديد لمطالب وضغوط الدول المُتدخّلة بضرورة التوسعة وضم منصتي القاهرة وموسكو، بدعوى تشكيل وفد مُوحّد للمعارضة السورية للدخول في مفاوضات الحل السياسي في الأشهر المقبلة، من دون أن تُعرف أي تفاصيل عنه، ومن غير المؤكد حصول توافق دولي حوله من الأساس، لأن كل المؤشرات والفاعليات العسكرية في الساحة السورية لا تُدلّل على شيء من هذا القبيل. لكن يبدو، وقياسًا على تجربة المعارضة مع المجتمع الدولي، أن هذه الدول المتدخِّلة تريد إغراق (هيئة التفاوض) بعناصر من المنصتين المذكورتين، أو من خارجهما، لـ “تمييع” مواقفها، وجرها على الموافقة على ما يُطرح عليها باسم الواقعية السياسية، في حال ظهرت بوادر توافق دولي حول الملف السوري، ومن غير الواضح حتى اليوم إن كانت المعارضة التمثيلية السورية ستمتثل للعبة ذاتها وتشرب من الكأس نفسه مرة أخرى، وغير واضحة أيضًا تلك الخيارات المتاحة أمامها لمواجهة هذا التوجه الجديد الذي يرفع رايته دي مستورا، وتدفع له بعض الدول.

ثانيًا: منصات المعارضة بين الثورة والثورة المضادة

حاولت الدول المُتدخِّلة- منذ أن عمد النظام إلى تدويل الصراع في سورية، الذي تحول مع كثرة المتدخلين إلى صراع فيها وعليها- أن تجد لها مرتكزات سياسية داخل الساحة المعارضة أو باسمها، كأداة تحكَم ناعمة في مسيرة التطورات، وقد ساعد على تمرير رهانات تلك الدول بهذا الخصوص، ما ظهر من انقسام مجتمعي عميق طفا على السطح، بتعبير صريح عن وطنية سورية هشة، لم يكن النظام الاستبدادي بريئًا من تعميق شروخها، وانحدار الوطنية السورية الجامعة إلى هويات ما دون وطنية، تستدعي سرديات مرضيّة من التاريخ العربي والإسلامي لدى الجماعات السورية، أو التحليق في متاهات أيديولوجية ما فوق وطنية لدى تشكيلات سياسية أخرى، ومنذ الأشهر الأولى للثورة، بتنا نشهد حراكًا لوفود تزور موسكو وطهران وبكين والقاهرة بدعوى البحث في شؤون المعارضة ومحاولات توحيدها، فكان هناك مؤتمرات موسكو 1 و2، وأستانا 1 و2، والقاهرة التي شهدت أكثر من مؤتمر ولقاء. وبعد التدخل العسكري الروسي في سورية في 30 أيلول/ سبتمبر2015، ظهرت في عالم المعارضة قاعدة حميميم التي تُدير نقاشات وتصوغ مواقف لوفود ما برحت “تحجّ” إليها من جميع أنحاء سورية بين حين وآخر، ثم تحوّلت إلى قاعة لـ “مصالحات” محلية، هنا وهناك، بين النظام من جهة، ومناطق كانت خارجة على سيطرته من جهة أخرى.

مع إطالة أمد الصراع وتشعبه وتعقيدات الوضع، تبلورت هذه المؤتمرات واللقاءات بحسب العواصم التي احتضنتها، وراحت تُفصح عن نفسها عبر ما دُعي بـ “منصات المعارضة”، فهناك (منصة موسكو) و(منصة القاهرة) كمنصتين رئيستين، ومنصات أقل فاعلية، ولم تحظ بغطاء الدول التي رعتها كـ (منصة الأستانة)، أو محلية كـ (منصة حميميم)، أو (منصة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني) التي حدً الاعتراض التركي من تعويمها، لكن من دون أن تفقد الأمل بالجلوس إلى جانب المنصات الأخرى ذات يوم.

لم يكن النظام بعيدًا من صيرورة تشكيل هذه المنصات، ولا هو اعترض على المواقف التي تبنتها غالبيتها، وخطابها البعيد أو المتعارض مع خطاب المعارضة التمثيلية، وفي الجوهري منها تحديد موقف واضح من النظام وآليات الانتقال السياسي والمرحلة الانتقالية، وفي تكثيف أكثر تحديدًا حول هوية سورية المستقبلية، وإذا كانت (منصة موسكو) والمنصات القريبة منها، تبنت الطرح الروسي للحل السياسي بشكل كامل، فإن (منصة القاهرة) تُناور على هذه البنود بالكلمات أو بتدوير الزوايا، لتبدو أكثر قربًا من طروحات الهيئة العليا للمفاوضات ما لم يُثبت الواقع عكس ذلك.

من سوء حظ الثورة السورية أن الانقسام الداخلي الذي أضر بالثورة، لم يكن انقسامًا سياسيًا بحتًا كالذي شهدته ثورات أخرى، بل خالطته أو دفعت إليه ولاءات انجدلت أو استقوت أو تحالفت مع أجندات ومشاريع الدول المتدخلة، وحاولت خلط الأمور بغاية التشكيك في مشروعية الثورة، أو إرباك تمثيلها السياسي أو مواجهته من داخل ساحته؛ فـ (منصة موسكو) التي تبنت خطابًا مناقضًا ومخالفًا لكل خطابات ومواقف المعارضة، ونطقت بما يقول به الاحتلال الروسي الذي أنقذ النظام من السقوط عام 2015، لماذا تُصرّ، ويُصرّ داعموها، على تصنيفها على أنها معارضة؟؛ الشيء ذاته، وإن كان أخف لغة وأقل مجابهة، ينطبق على (منصة القاهرة).

لقد حار السوريون في تصنيف هذه “المعارضات”، فهل هي شكل من أشكال الثورة المضادة التي تعمل في ساحة العدو؟ أم أن طبيعة وتعقيدات الصراع الدولي والإقليمي الدائر، بتضافره مع عوامل محلية، يفرض هذا التنوع وعلى الثورة تفهّمه، وإيجاد الوسائل التي تسمح بالتعامل معه واستيعابه؟

إن تقديم لمحة عن ظروف تشكّل هذه المنصات، وتفكيك خطابها والنظر في تاريخية رجالاتها، ربما يساهم في إلقاء ضوء أكثر على واقع وبنية ودور هذه المنصات.

1– منصة موسكو

تشكلت (منصة موسكو) عام 2014 كخلاصة عن نتائج مؤتمرات موسكو والأستانة، والزيارات والاتصالات التي قامت بها وفود تبحث عن داعم، وترى في روسيا لأسباب أيديولوجية أو مصلحية أو لقراءات خاصة للصراع، داعمًا جيدًا، ويرأسها قدري جميل، نائب رئيس مجلس الوزراء السابق للشؤون الاقتصادية، الذي أُقيل من منصبه عام 2012 بدعوى لقائه وفدًا أميركيًا من دون إذن مسبق.

تتبنى منصة موسكو المشروع الروسي للحل في سورية، الذي يتلخص بقيام النظام بإصلاحات تدريجية وحكومة موسعة تضم بعض المعارضين الذين يقبل بهم النظام، مع الحفاظ على المؤسستين المهمتين من وجهة نظر الروس، وهما المؤسسة الأمنية ومؤسسة الجيش، وفي الأعمق من ذلك منع وصول تيارات إسلامية متطرفة أو معتدلة إلى السلطة، هذا الموقف الذي تتشارك فيه موسكو مع الغرب.

لم تنجح موسكو حتى الآن في ضمّ منصتها إلى وفد (الهيئة للعليا للتفاوض)، بسبب من مواقف الدول الداعمة للمعارضة أو بعضها، وبسبب تشبث الهيئة بمواقفها ورؤيتها للحل، الذي يستند إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، التي يريد الروس التملص منها على الرغم من مشاركتهم في صوغها وتبنيها، لمصلحة التفسير الروسي للبيان 2254 وحده فقط، ويراهنون على تغيير المعادلات على الأرض وعلى تضارب أجندات ومصالح الدول المتدخلة، وعلى التحلل التدريجي لهذه القرارات، عبر استصدار قرارات دولية متتالية بصيغٍ أقل تشددًا بما يخدم استراتيجية النظام وحلفائه.

ظهر في اجتماع الرياض الذي عُقد في 21 آب/ أغسطس 2017، والذي فشل في الخروج بأي نتائج على طريق توحيد المنصات، أن (منصة موسكو) التي تُصرّ على أن مرجعية التفاوض الوحيدة هي فقط القرار 2254 لعام 2015 ولا تقبل أي تعديلات عليه، اختلفت بصورة كلية ومعلنة مع هيئة الرياض، وبصورة جزئية مع منصة القاهرة، في نقطتين جوهريتين: الأولى في رؤية (منصة موسكو) أن الغطاء الدستوري للفترة الانتقالية يكون باعتماد دستور النظام الذي صدر عام 2012 مع إمكانية قبول إجراء تعديلات بسيطة عليه من خلال عملية التفاوض، والثانية حول موقفها من مصير الأسد، الذي لا تقبل أي نقاش حوله، ولا حتى تداوله في الإعلام، وأن مصيره تقرره انتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية، يكون هو مشاركًا فيها. وكان لافتًا أيضًا الفهم الخاص عندها لفكرة وفد موحّد للمعارضة، إذ إنها ترى أن توحيد المعارضة يعني جمع منصاتها في وفد واحد، ولا يقتضي بالمطلق اندراجها في إطار رؤية واحدة وموقف واحد من موضوعات التفاوض، وهذا له ما يعنيه في فلسفة التفاوض وآلياته، حتى لو أُخذ هذا الفهم من باب حسن النيات.

علاء عرفات، أحد أعضاء المنصة، الذي يعتبر موسكو حجر الأساس في الحل السياسي للصراع في سورية، لم يزعجه فشل مؤتمر الرياض، بل رأى أن إنجازًا مُهمًا قد تحقق، لمجرد أن تُدعى (منصة موسكو) إلى المؤتمر، بغضّ النظر عن النتائج. وكأنه لا يُميّز- أو أنه لا يريد أن يُميّز- بين السياسة التي هي فن الممكن، والتسويات والحلول الوسط، وأن التراكمات الكمية الصغيرة قد تؤدي إلى تراكمات كيفية مفيدة، وبين الثورة التي هي فعل مجتمعي مُركّب ومديد، لا يخضع للقياس أو لقوالب مسبقة، ويحكمه ميزان القوى المتغير دائمًا بحكم تغير التحالفات والمواقف.

2– منصة القاهرة

تشكلت (منصة القاهرة)، هي الأخرى، عام 2014 من معارضين سوريين شاركوا في مؤتمرات محلية وخارجية، ودخلوا في تشكيلات مختلفة للمعارضة، قبل أن يستقر بهم المطاف في تشكيل ما يُعرف باسم (منصة القاهرة) التي يرأسها فراس الخالدي، وبرز من أعضائها جهاد مقدسي الناطق السابق باسم وزارة الخارجية السورية، والفنان جمال سليمان وأنور المشرف وغيرهم، ولا يُعرف الكثير عن توجهات هذه المنصة التي تحظى برعاية مصرية، حيث أنها، كمنصة موسكو، ليس لديها حتى موقع إلكتروني، بل مجرد تصريحات صحفية لهذا العضو أو ذاك، وقد تكون مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك عن الرأي العام الذي تقول به المنصة.

يقول أنور المشرف، في مقابلة له مع موقع (سبوتنيك) الروسي الإخباري في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2016: “إن المنصة تتبنى مبادرة أسستها على زيارة مستشار الأمن القومي السوري علي مملوك إلى القاهرة، وتتمحور حول استبعاد المعارضة التي تؤمن بالحلول العسكرية، وتعزيز وتقوية المعارضة التي تؤمن بالحل السياسي”، هذا التصريح الفج والمستغرب الصادر عن عضو بارز في المنصة، ومع اعتباره رأيًا شخصيًا أو رأيًا لمجموعة داخلها، ولا يختصر رأي المنصة بمجمله، يُشير إلى السقف الذي تتحرك تحته هذه المنصة، وما يُدلل على هذا الاستنتاج تفارق الرؤى والمواقف في تصريحات أعضائها البارزين فيما يخص قضايا الحل السياسي. ففي حين يقول جمال سليمان: “إن مصلحة سورية تستوجب النظر إلى الأمور بمنظار وطني، فالأمر ليس صراعًا على السلطة”، ويضيف موضحًا “إن المصلحة الوطنية إذا اقتضت بقاء الأسد على رأس السلطة فليكن، والعكس صحيح”، ويؤكد رئيس المنصة فراس الخالدي الذي لا يعترض على أمكنة المؤتمرات، على أن منصته “تقف على مسافة واحدة من الجميع (ثورة ومعارضة)”، ويضيف “نحن أقرب إلى مواقف الهيئة العليا للمفاوضات… نحن أمام خيارين خطيرين، خيار بناء الدولة على طريقة الراحل حافظ الأسد، أو على طريقة رجل الدولة السورية في فترة الخمسينيات فارس الخوري، وأنا شخصيًا أختار الخيار الثاني”، ثم يُلخّص موقفه “هناك إشارات يرسلها المجتمع الدولي، وهناك ضغوط دولية علينا كمعارضة وكثوار، وهناك حل يبدو أنه يتم العمل عليه دوليًا، حل غير مرضٍ للجميع، في الوقت الذي يجب أن تقبل به كل الأطراف، لدينا فرصة تاريخية كمعارضة لأن نضع بصمتنا، والضامن لذلك هو التوافق فيما بيينا بموجب القرار 2254 لعام 2015، لأن من سيقوم بالمفاوضات من طرف المعارضة هو الهيئة العليا للمفاوضات ومنصة موسكو ومنصة القاهرة”.

ثالثًا: المعارضة السورية في مواجهة تبدلات المواقف الدولية

لم يشهد صراع تبدلًا في التحالفات والمواقف كالذي شهده الصراع الدائر في سورية، مواقف رجراجة ومتغيرة، وتحالفات دوّارة لكنها ذات طبيعة موقّتة لا يمكن البناء عليها، نبرة عالية في التصريحات لمسؤولي الدول المتدخلة سرعان ما تبهت وتتحول إلى تهديدات فارغة. ربما يكون طول زمن الصراع وتغير الواقع الميداني واحدًا من الأسباب التي يمكن أن تفسر ذلك، لكنه سيبقى تفسيرًا آنيًا وناقصًا، لأنه ببساطة لا يتجاوز حيّز التكتيك السياسي أو العسكري للدول المتدخلة؛ فسياسات الدول محكومة باستراتيجيات ذات ثبات نسبي. لقد كان الموقف الذي اتخذته الإدارة الأميركية في عهد باراك أوباما بصفتها أكبر المتدخلين في الملف السوري “أن لا حل عسكريًا للصراع في سورية”، حجر الأساس الذي انبت عليه استراتيجيات الدول المتدخلة الأخرى على اختلاف درجة القرب أو البعد منها؛ فقد بيّنت تجربة السنوات الماضية، أنه ليس هناك من بين الدول المتدخلة من هو مُتحمّس للثورة السورية أو للتغيير في سورية، إذا لم يكن معاديًا لها كالإيرانيين والروس و(إسرائيل) الموجودة دومًا في خلفية المشهد، وهذا يبعث على الاعتقاد بأن هناك صراعًا محمومًا على النفوذ بين هذه الدول يدور في الخلف على أكثر من مستوى، وقد لا يجري التعبير عنه صراحة، كالصراع بين الأميركيين والأوربيين، وإلا كيف يمكن لنا تفسير هذا التبدّل في المواقف لهذه الدول، ومنها ما يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطه خلافًا للمواقف الفرنسية المعهودة، باسم الواقعية السياسية، أو لإدخال فرنسا إلى الملف السوري المبعدة عنه أو غير الفاعلة فيه، كذلك المواقف البريطانية التي رافقت الحماس الظاهري الذي أبداه الرئيس الأميركي الجديد عندما ضرب مطار الشعيرات ردًا على قصف خان شيخون بأسلحة كيماوية، حيث يقول وزير الخارجية البريطانية بوريس جونسون في حديث له نقلته (التايمز): “لقد دأبنا على القول بضرورة تنحّي الأسد كشرط مسبق، ولكننا نقول الآن إنه يجب أن يذهب في إطار مرحلة انتقالية، ومن حقه أن يخوض غمار انتخابات ديمقراطية”، وعلى القياس ذاته يمكن النظر إلى تبدل الموقف السعودي أو الموقف التركي وهكذا دواليك. فهل هذا التغير التراجعي في المواقف آني، وبقصد تطمين النظام وحلفائه وجرّه إلى طاولة المفاوضات؟ وكيف سيتلقف النظام وحلفاؤه الحالة المستجدة وهم الساعون لحسم عسكري ويرفضون الحل السياسي؟

ستبقى المواقف الدولية عرضة للتبدل والتغيير في الاتجاهين، مادام التوافق الدولي متعثرًا حتى الآن حول توزيع النفوذ وإشباع المصالح المتناقضة، بعد أن باتت سورية ساحة اختبار لصراع الإرادات لهذه الدول على حساب دماء السوريين، وهذا يطرح جملة من التحديات أمام المعارضة السورية في مواجهة هذه المواقف الجديدة.

ما زال هناك أمام المعارضة، ممثلة بـ (الهيئة العليا للتفاوض)، مجال واسع للمناورة مع المجتمع الدولي ومع المنصات الأخرى، إذا بقيت متماسكة داخليًا؛ فالقرارات الدولية من الصعب تجاوزها، إلا إذا قبلت المعارضة بذلك، وهذه القرارات تُشكّل وحدة متكاملة، من الخطأ أن تُعطى موسكو ومن ينطق باسمها أو يتساهل مع طروحاتها، فرصة أن تنتقي ما يناسبها منها. كذلك من الصعب على المجتمع الدولي- إن لم يكن مستحيلًا- أن يستطيع إعادة تأهيل نظام ارتكب هذا الكمّ من الجرائم بحق شعبه، إلا إذا أراد لهذا الصراع أن يبقى مفتوحًا، وهذا ليس في مصلحة استقرار المنطقة. الشيء ذاته يمكن تقديره عن عجز المجتمع الدولي استجلاب معارضة بديلة يرضى عنها، كما يُلمح دي مستورا، لأن الموضوع عندها سيدخل باب المهازل في تاريخ العلاقات الدولية. لكن الشرط المُتمّم للموقف المطلوب من المعارضة السياسية في مواجهتها هذه، ألّا تنزلق المعارضات العسكرية نزولًا عند إرادة الداعمين في تسويات ميدانية متفرقة أو تفاهمات سياسية، تُضعف موقف الثورة بصورة عامة، مع العلم أن التجربة الواقعية لهذه الفصائل ليست مشجعة.

رابعًا: خاتمة

عند هذا المنعطف الصعب، تتعرض المعارضة التمثيلية لضغوط شديدة، ويُشاع فيها وحولها مناخ يأس قاتم، يُشكّك في شرعيتها وفقًا لما نقل عن مايكل راتني، مبعوث الولايات المتحدة الخاص لسورية، قوله “لا يوجد تمثيل سياسي للمعارضة”، أو أن يقطع عنها التمويل كما قررت تركيا بحق الائتلاف مؤخرًا، وقد تُجبر على الذهاب إلى مؤتمر الرياض 2 المنوي عقده في الشهر العاشر من هذا العام والقبول بضم منصتي القاهرة وموسكو. لكن، يبقى أن المعارضة السورية، من باب المسؤولية التاريخية، عليها أن تَثبت على أهداف الثورة، وأن تتمسك بقرارات الشرعية الدولية بجملتها، مهما ضاقت أمامها هوامش المناورة، حتى لا تجد نفسها في موقف شاهد زور، سواءً جاء باسم الواقعية السياسية، أو تحت عنوان الحفاظ على ما تبقى من سورية، وسيكون محسوبًا لها، أن تلقي ملف التفاوض في وجه المجتمع الدولي ومبعوثه، في حال وصل الضغط الدولي حدود النقطة الحرجة.




المصدر