فلسطين “مهنةً”: وسورية أيضًا؟


جيرون

بقلم: فاتن فرحات

تنشر (اتجاهات)، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري. في المحور الأول، تتناول مجموعة من المقالات علاقة المضمون الفني مع الحدث العام ومفهوم الرسالة:

من يحدد اليوم عدد وطبيعة المعايير الفنية التي تحكم العملية الإبداعية السورية؟

ما هي خطوط ومحددات الرقابة الجديدة على الأعمال الفنية داخل سورية وخارجها؟

كيف يمكننا استعراض حالات مشابهة من العالم والاستفادة منها؟

تجيب السيدة فاتن فرحات، خبيرة لدى (يونسكو) وباحثة دكتوراه في السياسات الثقافية في جامعة هيلدزهايم، ألمانيا، على هذه الأسئلة في مقالة خاصة لموقع (اتجاهات).

عندما دعاني الصديق عبد الله الكفري إلى مشاركة تجربتي الشخصية والمهنية كناشطة ثقافية وباحثة من فلسطين ضمن إطار برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، لدى مؤسسة (اتجاهات- ثقافة مستقلة)، لتسليط الضوء على بعض التحديات التي تواجه القطاع الثقافي السوري حاليًا، تذكرت على الفور مداخلته، في بيروت في كانون الأول/ ديسمبر 2015، خلال اجتماع مجموعة العمل العربية للسياسات الثقافية، حيث تشاركنا ندوة تناولت موضوعًا إشكاليًا هو “السياسات الثقافية في ظل الظروف الاستثنائية”. قدم عبد الله مداخلة مؤثرة، حول الفنانين السوريين والتحديات التي تواجه القطاع الثقافي داخل سورية وفي بلاد اللجوء، تقاطعت إلى حد كبير مع تجربتي الذاتية التي خضتُها في فلسطين المحتلة، حين يؤدي العنف المنهجي والظلم والألم بالمرء إلى شعور كامل بالشلل. لم يكن لدي حينها إلا التمسك بالأمل في أن تتوقف معاناة سورية والسوريين، ولكن الأمور أخذت منحًى فاقم المأساة السورية.

خلال السنوات الماضية، شهدتُ لجوء العديد من أصدقائي من المثقفين والمبدعين السوريين إلى بيروت، ومنها إلى مختلف أنحاء العالم. كما حالفني الحظ بالتعرف إلى فنان سوري اختار البقاء في دمشق. خضتُ محادثات طويلة وحميمة مع أصدقائي من الفنانين والناشطين الثقافيين السوريين، في بيروت ولندن وبرلين وتونس والقاهرة، وعبر (سكايب)، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المؤتمرات وندوات النقاش بطبيعة الحال. وغالبًا ما كنتُ أجد نفسي مصغية مع إحساس بالعجز. كل ما كان بإمكاني تقديمه لهم هو كلمات الدعم وعناق التشجيع! وبات واضحًا لدي أنّ من الصعب فهم وتحليل وتفسير التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت بها سورية، في فترة زمنية قصيرة للغاية، وأن أي محاولة لاستنتاج معنى مما جرى لا بد لها من أن تكون ناقصة.

رغم اختلاف جوهر الصراع في سورية عن نظيره في فلسطين، تتقاطع أعراض عديدة من التي أنتجها الصراع في فلسطين مع أعراض الصراع في سورية، ويمكن تلمسها (مع كثير من التواضع والحذر فيما يخص كلًا من التجربتين)، لا سيما في ما يرتبط بالهوية الثقافية والإبداع.

قبل بضعة أسابيع، نشر الباحث الفلسطيني، الدكتور عصام نصار، مقالًا عنوانه (فلسطين مهنةً: الباحثون والإسرائيليون والإرث الثقافي المنهوب)[i]. يتناول المقال سطو “إسرائيل” على قسم كبير من الإرث الثقافي الفلسطيني، ومساهمة الفلسطينيين في خسارة جزء من إرثهم، منذ بدايات القرن العشرين. كما يتتبع بعض المحاولات الفلسطينية والأجنبية، وحتى الإسرائيلية، لاسترجاع هذا التراث، من خلال العديد من الأبحاث والمشاريع الفنية المهمة. بسخرية تلتقط الواقع بذكاء، يقترح عصام اصطلاح “فلسطين مهنةً” في مقالته المتبصرة. بعد بضعة أيام، قدمت الفنانة الفلسطينية شروق حرب مداخلةً استثنائية بعنوان “لا تخلطوا بيني وبين القرد”، في الفندق المُسوَّر لفنان الجرافيتي “بانكسي”. يتناول المقال الفندق المثير للجدل في بيت لحم الذي يتّسم بأسوأ إطلالة في العالم (وهي الإطلالة على جدار الفصل العنصري)، ويطرح أسئلة مهمة وصعبة حول توظيف الفن للتعبير عن القضية الفلسطينية. من هنا، وعبر هذين المقالين، أرغب الآن فقط في استعارة اصطلاح “فلسطين مهنةً”.

مفهوم “فلسطين مهنةً” بات، عبر العقود الماضية، مفهومًا إشكاليًا محدودًا بإطار صارم ليمثل صورة/ نسخة مُنمّطة عن “الفلسطيني”، وما يُتَوقع منه من وجهات نظر داخلية وخارجية. ولطالما كان الفنانون والكتاب الفلسطينيون، في الداخل والشتات، في طليعة مواجهة هذه المعضلة، حيث شعر الفنانون والكتاب الفلسطينيون بأن من واجبهم، باستمرار، الحفاظ على الإرث الثقافي الفلسطيني الذي يعمل الاحتلال العسكري على إلغائه، واستخدام الاحتلال الإسرائيلي كاستعارة مباشرة في أعمالهم الفنية (الأدب والسينما والفنون البصرية والموسيقى). صورة الفنان المتوقعة هذه فرضها الفلسطينيون على أنفسهم، وفي الوقت ذاته، استُقدِمت وفرضت من الخارج. وقد كان الأثر قويًا إلى حد أن العديد من الفنانين والباحثين عمدوا إلى استقصاء مصير “الفن الفلسطيني” المتخيل من دون الاحتلال الإسرائيلي. أدت الرواية السياسية التي عممتها الثورة الفلسطينية إلى تحويل كافة مناحي الحياة إلى موضوعات سياسية. وقد لخص الفنان البصري مجد عبد الحميد هذا الواقع بدقة حيث قال: “ينشغل الفن الفلسطيني عمومًا بوجود الاحتلال، وكأن وظيفة الفن أن يؤكد للعالم أننا –الفلسطينيين- موجودون”. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الفنانين الفلسطينيين احتجزوا أنفسهم في مساحة مريحة، تشكلت من أنهم “فلسطينيون محترفون”، ينفذون مهمة ويؤدون واجبًا، ما يمكنهم من التنازل أحيانًا عن الجودة الفنية، وهو وضع جاء بفرص متنوعة من التمويل والأنشطة والبرامج المشتركة. وغالبًا ما كانت فلسطين هي محط الاهتمام، لا العمل الفني نفسه.

بدأ هذا الوضع يتغير ببطء، بعد اتفاقية أوسلو، عام 1994، في فلسطين. “بعد شعورهم بالتحرر من مقاييس الاحتلال المباشرة؛ أنتج الفنانون البصريون والمخرجون المسرحيون والكتاب والسينمائيون والموسيقيون ومصممو الرقص والمصوِّرون أعمالًا رائعة، تعالج الصدمة والعنف والاحتلال والاستعمار، ولكن عملهم لم يقتصر على ذلك، بل تناول أيضًا الفقر والجندرية ومكانة المرأة الاجتماعية والتهميش والهجرة واللاجئين والعلاقة مع السلطة والمجتمع الذكوري والفشل الحكومي”. مع مجيء عملية السلام (رغم عيوبها ونواقصها العديدة)، تحرر الفنانون الفلسطينيون نسبيًا من هيمنة القضايا السياسية المباشرة، وبدؤوا بتناول المسألة الفلسطينية من منظور عالمي أكثر تركيزًا على الإنسان، كما استطاعوا معالجة مخاوف سياسية واجتماعية أخرى. كثيرًا ما عبّر الفنانون (حتى الأكثر التزامًا سياسيًا بينهم) عن شيء من الارتياح، تجاه هذه الحرية الجديدة، وبدأ الفن الفلسطيني يصنع لنفسه مكانًا نابعًا من مكانته الحقيقية في المشهد الفني الإقليمي والدولي.

المفارقة أن شتات الشعب الفلسطيني الذي بدأ عام 1948، موازٍ إلى حد كبير لشتات السوريين وتوزعهم في الدول المجاورة وحول العالم. شتات بأعداد مخيفة وغير مسبوقة جرى خلال فترة قصيرة؛ ليخلق معاناة يندر مثيلها، وليضع سورية في قلب المشهد الإعلامي والإنساني والسياسي، على المستويين الإقليمي والدولي؛ لتحتل مكانة كانت فلسطين تشغلها سابقًا. وبالرغم من التحديات الواضحة لهذا الواقع الجديد، فقد برزت بعض الفرص الجديدة للحركة الثقافية السورية (في الخارج في المقام الأول) ومحاولتها المساهمة في إعادة بناء سورية مستقبلًا، وترميم صورتها، رغم الآلام العميقة التي قد تسببها هذه العملية.

تستحق هجرة الفنانين السوريين، بشكل خاص، التمحيص. فعلى عكس فلسطين، تمتلك سورية بعض أهم مؤسسات التدريب الفني في العالم العربي المهنية العالية. ويتمتع معظم الفنانين والناشطين الثقافيين السوريين بمهارات فنية وتقنية استثنائية. يشكل وجود الفنانين السوريين، في مدن عربية وأوروبية وكندية مختلفة، قيمةً مضافة لهذه المدن التي يتوجب عليها التعامل مع ساكنيها السوريين الجدد على هذا الأساس. لا يستطيع الفنانون السوريون تمثيل مأساة الشعب (داخل سورية وخارجها) فحسب، بل يمتلكون -أيضًا- القدرات الفكرية والفنية التي تمكنهم من تجنُّب التحول إلى “سوريين محترفين”، أو أن ينحصر نتاجهم وجهدهم في الجوانب السياسية للصراع في سورية. في الوقت نفسه، في ظل المسؤولية الأخلاقية التي يحملونها تجاه سورية، وفي ظل توفر فرص وبرامج التمويل المتنوعة للفنانين السوريين خصوصًا، سيتعرض الفنانون السوريون للضغط لإنتاج أعمال تعكس السياق السياسي بشكل مباشر. فهذا السياق السياسي جذاب دائمًا، رغم صعوبة التوازن بينه من جهة، وبين المضمون الفني والرغبات الشخصية من جهة أخرى، ولا يبدو أنه قابل للتحقق في هذه المرحلة، فالوقت قد يكون مبكرًا على تحقيق مثل هذا التوازن. ربما علينا التعامل مع هذه الفترة، كفترة نجاة، تؤسس لعملية أكثر تماسكًا. قد لا يكون المشهد واضحًا في هذه المرحلة، ولكن الحركة الفنية التي تتشكل خارج سورية تنشئ مشهدًا فنياً مستقلًا متماسكًا وقويًا، يتجسد بقوة في روح الحركة المدنية التي تتعزز بالشراكات الإقليمية والدولية التي من شأنها أن تكون أساسية في أي عملية مصالحة مستقبلية في سورية، أو بتحديد أكبر، في أي عملية مستقبلية لإعادة تشكيل السياسات الثقافية في سورية. في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الدور المهم الذي لعبه العديد من الفنانين الفلسطينيين الذين عادوا بعد عام 1994. فبعد أن أقاموا في مدن عربية ذات مجتمعات غنية، مثل بيروت ودمشق والقاهرة وتونس، وفي أماكن أخرى حول العالم، حالف الحظ هذا القطاع من المجتمع الفلسطيني بالاطلاع على مزيج فريد من الثقافات المتنوعة والتجارب الفنية والثقافية، في المنطقة والعالم.

المهم الآن أن يستمر النقاش والجدل، إذ سيبقى الفنانون والناشطون الثقافيون السوريون معرضين لاحتمال أن يصبحوا “سوريين محترفين”، ما دام الصراع مستمرًا وممتدًا. إن وعي هذه المخاطرة ضرورة قصوى، وكذلك ثقة الفنانين السوريين بالقيمة التي يضيفونها على المشهد الفني في المنطقة وفي مجتمعات اللجوء، فمن شأن هذا الوعي أن يمكنهم من الحصول على شروط أفضل لأعمالهم.

كذلك، من الضروري استكمال وتطوير المحاولات الهادفة، للبدء بحوار سوري داخلي يحدد الأولويات، بما يتناسب مع حاجات الفنانين العامة، وذلك تحضيرًا للمستقبل. إلى جانب ذلك، من الضروري أيضًا إفساح المجال أمام المراجعة الذاتية للاحتياجات الفردية للفنانين والناشطين في الحقل الثقافي، ومن المهم أن يجري هذا ضمن بيئة مفتوحة ومتسامحة يسودها التعاطف، بيئة تحترم الرغبات والهواجس المختلفة والخيارات الشخصية للفنانين. لا ريب في أن الفن تمثيل للمجتمع، ولا ينفصل عن الإشكالات العامة للمجتمع، لكنه أيضًا، وأولًا، يشكل خيارًا شخصيًا وعملية فردية للاستكشاف والخلاص.

[i]– Nassar, Issam. “Palestine as a Profession: Researchers, Israelis, Looting of Palestinian Cultural Heritage”.  12-6-2017.  http://refugeesps.net/post/4580




المصدر