أن تُقتلع من أرضك لا يعني أن تندثر


سميرة مبيض

الأرض كانت تعني القوة، الأصل والوجود، وذلك بالعودة إلى تعريف الأرض، عند المجتمعات الأولية، كما يذكره العالم الفرنسي Dardel في كتابه (الإنسان والأرض). لكن لا يشمل ذلك كل الأماكن التي مرت بها المجموعات البشرية أثناء هجراتها، بل يقتصر على المحيط الذي يقدم لهم إمكانات الحياة، حيث يمتلك هذا المحيط أهمية قصوى، وتتمسك به المجموعات البشرية، وتتحد معه كجزء من وجودها وهويتها، فكانت هناك ملكية جمعية لفضاء الحياة المحيط، وتُشكّل هذه الملكية الجمعية جزءًا من هوية المجموعة. لكن هذا المنظور تطور مع الزمن، واتخذ مضامين أخرى تختلف بين المجتمعات، وما زالت ديناميكية هذا المفهوم مستمرة، ولا سيّما مع توسع مفهوم العولمة، وازدياد كثافة التواصل بين مختلف المناطق الجغرافية.

اليوم، وبعد أن أصبح أكثر من نصف الشعب السوري خارج محيطه المكاني الذي وُلد ونشأ ضمنه، وبات من بقي في الداخل السوري محكومًا باحتلال الأمر الواقع الذي يَنقله من مكان إلى آخر، وينتزع منه، بقوة السلاح حينًا وبقوة التخويف في أحيان أخرى، صكوك ملكيته. في ظل هذا الواقع، فإن قضية الأرض السورية تفرُض نفسها باعتبار أن أي انسان لا يستطيع أن يعرّف نفسه دون مرجعية مكانية على الأرض، وباعتبار أن غالبية الشعب السوري اقتُلِعَ -بشكل أو بآخر- من أرضه.

وقد عُرف عن المجتمع السوري، كمجتمع مُحافظ، أنّ تعريفه للأرض لا يقتصر على الملكية، بل على الانتماء، وأنّ الأرض جزء من الهوية، أي بوجود حالة اندماج بين الأرض والمجتمع الذي يقيم عليها. فالسوريون لم يكونوا مُستخدمين للأرض فحسب، بل يظهر ارتباط كبير بالهوية المكانية مثل المعالم المكانية للمدن أو الأحياء. يعود هذا الانتماء إلى عوامل ثقافية-دينية من جهة، باعتبار هذه البقعة من الأرض مرتبطة بالأديان السماوية وذات أهمية وبُعد مقدس، وإلى عوامل قومية من جهة أخرى، بارتباط الأرض، لدى كلّ قومية تتمسك بها، بكونها أرض الأجداد، وتعتدّ بكل ما قُدم من تضحيات من أجل الحصول عليها والحفاظ على مكتسباتهم وتوريثها للأجيال القادمة، يضاف إلى تلك العوامل بُعد حضاري إنساني، يتمسك بالارتباط بالحضارة التاريخية التي مرت على هذه الأرض وبمؤسسيها في هذه المنطقة.

لم يكن لحقبة نظام الأسد إلا دور مخرب لهذا الانتماء إلى الأرض، فهو قبل الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس من عام ألفين وأحد عشر، كان يستخدم اللاتجانس المكاني في توزيع موارد الأرض، وفي مشاريع تطويرها وازدهارها، كأداة لخلق فتنة مناطقية، تعزز التفرقة وتعزز تسلطه وتحكمه بسورية، طيلة عقود. أما بعد انطلاق لثورة السورية فقد بات يستخدم تدمير المدن وتغيير معالمها الأساسية كسلاح لمحاربة الهوية السورية، كما سهّل احتلال الأراضي السورية، ورحّب بالتغيير الديموغرافي للمدن لتشويه ثقافتها السائدة، في ظل غياب كامل لكل إمكانية دفاع للسوريين عن أرضهم، أمام جحافل الجيوش والغرباء التي اجتاحتها.

في هذه الفوضى الخانقة، نحن أمام تحول عميق حتمي في الهوية السورية المرتبطة بالإطار المكاني والتي تواجهها تحديات كبيرة. هل ستندثر الهوية المرتبطة بالفضاء الجامع في الأرض السورية، بتنوع حضاراتها وأديانها وقومياتها، لصالح عدة هويات مذهبية وقومية فتبتلعها، ويبحث كل سوري بعد ذلك عن ارتباط جديد بهويات أخرى، خارج إطار الأرض السورية تعبّر عن انتمائه المذهبي (سني، شيعي، علوي، مسيحي، درزي…) أو انتمائه القومي (عربي، كردي، سرياني، أرمني، تركماني..) بعيدًا عن السوري الآخر من قومية ومذهب مختلف عنه.

أم أن التحول الحتمي العميق في الهوية السورية، سيذهب باتجاه آخر أكثر عمقًا وأكثر ارتباطًا بالمأساة السورية التي يعيشها كل فرد، دون استثناء، منذ خمسين عامًا. فقد جمعَنا فعلًا تاريخ وأرض وحضارة مشتركة، ولكن جمعَنا ما هو أكبر من ذلك بكثير، جمعتنا وطأة استبداد على مدى خمسين عامًا، حُرم كل المجتمع السوري خلالها من حقه وقيمته كإنسان، ومن حقه بالعدالة وبالكرامة. جمعتنا بعد ذلك مجازر إبادة جماعية، استمرت سبعة أعوام وتهجير ممنهج، وتخريب متعمد، وظلم مجاني، وقصص معتقلات تمتد في كل بقعة من الأرض السورية، وهي المعتقلات التي عُرّفت بأنها محارق بشرية، وبأنها الأشد وحشية في تاريخ البشرية، جمعنا كل ذلك وليس فقط، بل جمعتنا صور شهداء باعهم الأسد لأجل سلطته، وآخرون استشهدوا ثوارًا ضده استبداده، جمعنا خونة باعوا آلام السوريين ومرتزقة تقاتلوا على لحومهم، جمعنا شتات وسِع العالم.

أضاف كل ذلك بعدًا عميقًا للهوية السورية؛ فلم تعد مرتبطة بالأرض، بل بالتهجير القسري منها، لم تعد مرتبطة بالأماكن بل بدمارها، نحو تطور ذاكرة جمعية واعية لما مر به هذا الشعب، تسير نحو هوية جديدة رافضة للظلم والتطرف بكل أنواعه، ورافعة لبناء قيم جديدة بعد أن حطم نظام الأسد المنظومة القيمية الفطرية في المجتمع السوري. فالأمل أن تولد هوية ما بعد الإبادة، وما بعد الاستباحة، وما بعد عصر الاستبداد، واعية لكل ما سببه من أمراض؛ لتنهض بالسوريين وتعيد تجميعهم لاستعادة أرضهم، وإعادة إعمارها، وإعمار مستقبلهم معها. لم يعد التشارك بالأرض هو الطريقة الوحيدة لصنع الهوية، بل هدف استعادتها وما ستكون عليه هو ما يصنع هذه الهوية.

فكما أصبحت الأرض مصدرًا للتنازع، بعد حقبة الأسد، عندما لم تُحترم القوانين فيها، فإن الأرض نفسها بإمكانها أن تكون مكانًا للتشارك والأخوة والمواطنة، عندما تنتظم فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق الازدهار للسوريين، في ظل حكم وقانون عادل. فجوهر الأمر هو أن الأرض مساحة للحياة، يمكن مشاركتها لكن لا يمكن التخلي عنها.




المصدر