‘خالد الجبيلي: المترجم وموهبة الكاتب الأصلي’
10 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
أوس يعقوب
للترجمة الأدبية تأثير مهم على تطور الأجناس الكتابة الإبداعية العربية.
“يجب أن يكون المترجِم مسلحًا بأدواته الأدبية والفنية، لأن عمله يقوم على إنتاج عملٍ فني يضارع عملَ الكاتب الذي أبدع العملَ الفني، وعليه أن يختار الكلمات والعبارات بدقة شديدة، وأن يواكب الأساليب والمفردات العصرية؛ لكيلا ينفر القارئ من النص الذي يترجمه. إني ألتزم بالنص الأصلي حتى يكاد يطابقه تمامًا، من حيث المضمون، وأتقمّص عقل الكاتب وأحل محله، لأعيد كتابة النص باللغة العربية. وهنا نستطيع القول إن المترجم «كاتب ثان».. إني أختار الأعمال الأدبية التي تضيف جديدًا إلى ثقافتنا”.
بهذه الكلمات، يوضح المترجم السوري خالد الجبيلي (المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية) علاقته بعالم الترجمة.
ضيفنا الذي ترجَم حتى الآن أكثر من خمسين كتابًا: روايات وقصصًا ودراسات وتاريخًا، حائز على إجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة حلب، سورية، ومن معهد اللغويين في لندن. وقد عمل مدة ثمانية عشر عامًا مترجمًا ومراجعًا في هيئة الأمم المتحدة. وهو أول من عرّف القارئ العربي على الكاتبة التركية “إليف شافاق”، عندما قام بترجمة روايتها (لقيطة إستانبول) أولًا، ثم روايتها (قواعد العشق الأربعون). وكانت من أهم ترجماته رواية (الجانب المظلم للحب) للألماني السوري الأصل رفيق شامي، الصادرة في 2016 عن “منشورات الجمل” (بيروت – برلين)، ورواية (غرباء) للياباني “تايشي يامادا”، الصادرة مؤخرًا عن منشورات دار نينوى، بدمشق.
(جيرون) التقته؛ فكان لنا معه هذا الحوار:
بداية نود سؤالك كيف تختار الأعمال الأدبية التي تقوم بتعريبها، ما المقاييس والدوافع؟
لا توجد لدي معايير دقيقة في اختيار العمل الذي أقوم بترجمته. إن الدافع الرئيس في اختيار العمل هو أن تكون فيه متعة وفائدة، وأن يحمل أفكارًا جديدة، وأن يكون متميزًا في أسلوبه. ولا أبدي اهتمامًا كبيرًا بأسماء الكتّاب المشهورين، فهناك عدد كبير من الكتاب الرائعين الذين لم يسمع بهم القارئ العربي، وقد قمت بترجمة أعمال بعض هؤلاء الكتّاب، وساهمت في تعريفهم للقارئ العربي، مثل “حنيف قريشي” و”آشا بنديلي” و”نهال تجدد”، وحتى “إليف شافاق” وآخرين. الشيء الأساس هو أن أُحب العمل، وأشعر بالرغبة في أن أشارك القارئ العربي هذه المحبة والمتعة، عندما أنقله إليه.
برأيك هل ثمة شروط ينبغي أن تتوفر لدى من يمارس ترجمة النصوص الأدبية، وما مدى صلاحية لغتنا العربية وقدرتها على النقل من الثقافات الأخرى؟
في أثناء مسيرتي المهنية، قمت بترجمة أعمال في مجالات وتخصصات شتى: زراعية وقانونية وتجارية ومالية وتقنية.. وما إلى هنالك، إلا أن ترجمة الأعمال الأدبية عملية إبداعية إلى درجة كبيرة، تنطوي على تراكيب وأنساق وبنى لغوية وفكرية؛ لذلك، لا يستطيع أي مترجم القيام بالترجمة الأدبية.
ينبغي للمترجم الأدبي أن يكون أديبًا، وأن يتمتع بذائقة أدبية عالية. فلا يكفي أن يكون المترجم الأدبي متقنًا للغة التي يترجم منها، واللغة التي يترجم إليها، بل ينبغي أن يكون على إطلاع جيد بثقافة هاتين اللغتين، ويجب أن يكون موهوبًا، وأن يصقل موهبته بالكثير من القراءة المتعمقة.
كما ينبغي أن تتوفر في المترجم الأدبي موهبة الكاتب الأصلي، حتى يتمكن من أن يبدع نصًا مطابقًا للنص الأصلي لكن بلغة جديدة. أنا أحب اللغة العربية، وأجد متعة كبيرة في قراءتها والترجمة إليها، وأرى أنها لغة غنية بمفرداتها وتراكيبها، وهي لغة جميلة جدًا ومطواعة وقادرة على نقل الثقافات الأخرى.
المترجم “كاتب ثان” للنص
إلى أي مدى تؤمن أن الترجمة تشكل حجر الزاوية في التواصل بين الثقافات؟
لولا الترجمة؛ لما عرفنا شيئًا عن ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى، ولما عرفت الشعوب الأخرى شيئًا عن حضارتنا وثقافتنا. للترجمة دور فعال في نقل الثقافات والأفكار والحضارات، وهي وسيلة بالغة الأهمية للتواصل الثقافي والعلمي بين الشعوب، وتثري المخزون الفكري الإنساني. ولا يمكن أن تتقدم الشعوب من دون تطور الترجمة، لذلك يجب إيلاء الاهتمام والتقدير الكافيين للترجمة وللمترجمين، بسبب أهمية العمل الذي يضطلعون به.
تقول المترجم “كاتب ثان” للنص، بينما يرى زملاء آخرون أن “على المترجم ألا يظهر، وأن يبقى في الظل”، فيما يقول المثل الإيطالي “المترجم خائن”، كيف توفق بين هذه الآراء، وأين أنت منها؟
أرى أن المترجم “كاتب ثان” للنص؛ لأنه يعيد كتابة النص الأدبي الأصلي بلغة جديدة، ويبعث في النص المترجَم روحَ عالم جديد من التخييل، وينقل عالمًا يتمتع بخصوصية معينة، يطابق تمامًا العالم الذي ابتدعه الكاتب الأصلي.
والمترجم -بحسب تعريف أنظمة الملكية الفكرية- مؤلف للنص المترجم. وإذا كان المقصود من أنّ على المترجم “أن يبقى في الظل” أي ألا يتدخل في النص الأصلي، ويضفي عليه من ذاته؛ فأنا أوافق على هذا الرأي.
وأفهم مقولة “الترجمة خيانة”، بمعنى عدم إمكانية التطابق التام بين النص الأصلي والنص المترجم، لأسباب عديدة منها اختلاف اللغتين من حيث السياق والمفردات والتراكيب والأسلوب.
أما عندما يتصرف المترجم بالنص الأصلي، كما يحلو له، فيحذف الفقرات التي لا يفهمها أو التي لا تروق له، ويضيف هنا، ويحذف هناك بذريعة أنها منافية لأخلاق وذائقة وثقافة القارئ العربي؛ فهذه “خيانة كبيرة”، لكلٍّ من الكاتب الأصلي والقارئ الذي يترجم له، حيث يقع تحت رحمة المترجم الذي يتلاعب به كما يشاء، ويعتبر نفسه حارسًا على أخلاق وذائقة القارئ الذي ينقل له النص.
أما أنا، فإني أترجم النص الأصلي بأمانة شديدة، وعلى نحو مطابق للنص الأصلي بدقة، لكن بلغةٍ أحرص على ألا تكون متحذلقة، بل سلسلة ومفهومة للجميع.
لكن كيف يمكن أن يكون المترجم “كاتبًا ثانيًا” للنص، في ظل الصرامة التي تفرضها حقوق الملكية الفكرية الخاصة، بالحفاظ على “النص الكامل” للمؤلفات الجديدة؟
لا تعني عبارة “كاتب ثان” أن يخترع المترجم نصًا مختلفًا ومغايرًا للنص الذي يقوم بترجمته، بل ينبغي له أن يتماهى مع النص الأصلي، وينقل أفكارًا وثقافة، بل حتى أسلوب الكاتب الأصلي، لكن بلغة الترجمة الجديدة. وهنا يجب عدم الخلط بين الأمانة في الترجمة وبين الترجمة الحرفية، فالأمانة في الترجمة تتطلب نقل روح النص ومعناه بصدق وبالكامل، إلى درجة أن يشعر قارئ النص بلغته الأصلية، وقارئ النص المترجَم، بأنهما يقرأان النص نفسه، بلغتين مختلفتين، ويحصلان على المتعة والمشاعر نفسها.
بعد ترجمة أكثر من خمسين عملًا، جلها أعمال روائية وقصص قصيرة، نسألك أي دور للترجمة في تطوير الأجناس الأدبية؟ وأين هي مواضع القصور في هذا المجال؟
أرى أن للترجمة الأدبية تأثيرًا مهمًا على تطور أجناس الكتابة الأدبية الإبداعية العربية. والترجمة نافذة للكاتب العربي، يطّلع من خلالها على الأساليب والمواضيع المتنوعة التي يتناولها الأدب العالمي.
حدثنا عن الصعوبات التي تواجه المترجم الأدبي والمعاناة التي يتكبدها في هذا الحقل؟ وما هي أبرز معوقات الترجمة في الأعمال الأدبية؟
الترجمة الأدبية من أكثر الأعمال والمهن صعوبة، وهي تتسم بالإبداع وبسعة الاطلاع والمعرفة من جانب المترجم. ولا يعرف مدى صعوبة الترجمة إلا من كابدها وعمل بها. وتواجه المترجم الأدبي على الدوام صعوبات جمة، في أثناء عمله، تتمثل في مصادفة تراكيب ومصطلحات ومفردات ليست موجودة في اللغة والثقافة التي ينقل إليها، لذلك، ترى المترجم دائم البحث لإيجاد حلول لملء تلك الثغرات، وهذا يساعد في إثراء اللغة العربية أيضًا.
هل تهتم لمسألة حقوق الترجمة، وأخذ إذن عندما تنوي ترجمة أي عمل، سواء من مؤلف الكتاب أو ناشره، خاصة أننا في المنطقة العربية لا نولي هذا الأمر –حتى الآن– أي أهمية؟
في البداية، لم أكن أهتم كثيرًا بمسألة حقوق الترجمة، لكني بدأت أواجه صعوبات في قبول دار النشر للترجمة، لأن ناشرًا آخر يكون قد حصل على تلك الحقوق.
لذلك بدأت أعمل بالتنسيق مع الناشر، فأقترح عليه بعض الأعمال. وبالطبع تقع متابعة الحصول على حقوق الترجمة من قبل الناشر، ويمكن للمترجم أن يساعده في ذلك.
ذكريات العمل الأول..
ماذا تبقى بالذاكرة من أول عمل ترجمته (رواية «مزرعة الحيوانات» للكاتب البريطاني “جورج أورويل”)، يوم كنت طالبًا بالسنة الثالثة في كلية اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعة حلب. وكيف تطورت مسيرتك في هذا الحقل؟
نعم كانت أول تجربة حقيقية لي في الترجمة هي رواية (مزرعة الحيوانات) التي كانت في مكتبة والدي -رحمه الله- كنت آنذاك في السنة الثالثة في قسم اللغة الإنكليزية وآدابها بجامعة حلب، فأقدمت على ترجمتها، وقمت بطباعتها بنفسي على الآلة الكاتبة. وصادف أنني عُينت في مدرسة ثانوية في مدينة حلب لتدريس اللغة الإنكليزية، بصفة مدرس غير متفرغ، وتعرفت هناك على أستاذ للغة العربية بالغ اللطف والتهذيب، وعلى درجة عالية من الثقافة (الدكتور عبد الرحمن دركزللي، الذي أصبح عميدًا لقسم اللغة العربية، في كلية الآداب في جامعة حلب لاحقًا)، وحدثته عن هذا العمل، فاقترح أن يقرأ الترجمة، والشيء الذي أفرحني كثيرًا هو أنه أبدى أعجابه بالترجمة، وشجعني على الاستمرار في هذا الجهد.
كانت الترجمة هي جل اهتمامي، ولم أكن أتخيل أنني أستطيع القيام بأي عمل غير الترجمة. ثم عملت مترجمًا في (المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة) لمدة 17 سنة، ثم انتقلت للعمل في (دائرة اللغة العربية في قسم الترجمة بالأمم المتحدة بنيويورك) مدة 18 سنة، وكنت خلال ذلك أُترجم بعض الأعمال الأدبية التي كنت أرى فيها متعتي الحقيقية.
حدثنا عن علاقتك بالكاتبة التركية “إليف شافاق” التي ترجمت لها أكثر من رواية. وهل تفكر بترجمة عمل آخر لها، في المرحلة المقبلة؟
يمكنني الادعاء أنني أول من عرّف القارئ العربي على الكاتبة التركية “إليف شافاق”، عندما قمت بترجمة روايتها (لقيطة إستانبول) أولًا، ثم روايتها التالية (قواعد العشق الأربعون) التي حظيت بانتشار كبير في الوطن العربي، لما تحمله من أفكار جميلة وأسلوب مثير. وكنت على اتصال بالكاتبة شافاق، وعندما أخبرتها في البداية عن قيامي بترجمة روايتها (لقيطة إستانبول)، أبدت سعادة كبيرة؛ لأنها ستصل إلى القارئ العربي. و”إليف شافاق” كاتبة على درجة عالية من الثقافة والتواضع. كنت أود القيام بترجمة أعمالها الأخرى، لكن دار نشر أخرى حصلت على حقوق ترجمة باقي أعمالها.
نتوقف معك عند ترجمتك لرواية «الجانب المظلم للحب» للألماني (السوري الأصل) رفيق شامي، الصادرة مؤخرًا عن “منشورات الجمل”، ما الذي دفعك إلى ترجمتها للعربية، وكيف تقدمها لقراء مجلتنا؟
كانت سعادتي لا توصف، عندما اتصل بي الناشر المعروف خالد المعالي (صاحب منشورات الجمل)، وأبلغني عن رغبة الكاتب العالمي (السوري الأصل) رفيق شامي بترجمة روايته الأضخم والأهم في مسيرته الأدبية (الجانب المظلم للحب). وبالصدفة كنت أقرأ الرواية في ذلك الوقت. كم كنت أرغب في ترجمة أحد أعمال هذا الكاتب الكبير المعروف عالميًا وغير المعروف كثيرًا عربيًا. وكانت سعادتي بالغة، عندما كتب لي رفيق شامي رسالة قال فيها: “إني أتابع ترجماتك منذ زمن، وأحسد الذين تترجم لهم”. كانت تجربة رائعة لي وتحديًا كبيرًا أن أعمل مع كاتب عربي، يكتب بلغة أجنبية، ويجيد اللغة التي تقوم بترجمة عمله إليها. وكانت فرحتي كبيرة، عندما قرأ الترجمة وأعجب بها كثيرًا، وهو العمل الذي أمضى نحو عشرين سنة في كتابته. يمكنني القول إنني أعدت النص إلى بيئته الأصلية، وهي البيئة السورية الدمشقية وبيئة قريته الأصلية (معلولا). وإني أعتبر هذا أكبر إنجاز لي.
هل فكرت في ترجمة بعض الأعمال الروائية السورية إلى اللغة الإنكليزية، بخاصة ما كتب خلال السنوات الست الأخيرة.
لا أفكر بالترجمة إلى الإنكليزية، لأني أؤمن بأن المترجم يجب أن يترجم إلى لغته الأم. ويضطلع بهذه المهمة مترجمون إنكليز وأميركيون.
يُشار إلى أن المترجم خالد الجبيلي، من مواليد مدينة حلب، وهو مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ سنوات طويلة. ويُعد من أهم المترجمين السوريين والعرب في عالمنا العربي، وهو صاحب مسيرة طويلة وشاقة في عالم الأدب والترجمة، مسيرة أثمرت عن ترجمة أكثر من خمسين عملًا، معظمها أعمال روائية من روائع الأدب العالمي، بالإضافة إلى عدد من الدراسات، وعدد لا بأس به من القصص القصيرة التي نشرت على بعض المواقع الأدبية في الشبكة العنكبوتية.
[sociallocker] [/sociallocker]