اللاعبون على الحبال

10 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
5 minutes

إبراهيم صموئيل

[ad_1]

إذا كان ثمَّة ذريعة أشدّ قُبحًا ووقاحة من قصائد ونصوص، تعمل على مديح الطاغية الجائر، فهو التبرير الذي يسوقه المنظّرون للمدَّاحين من أنّ الممدوح راحل فانٍ، أما الإبداع فهو ما يبقى للناس!

أقول: التبرير أحطّ من المديح؛ لأنّ المديح يُكال من الكاتب لضِعَة نفسه، وشهوة لديه للتقرُّب من الحاكم، ونيل المكاسب أو الحظوة أو التميّز والشهرة.. في حين يحثُّ التبرير ويشجّع على المديح المنافق الانتهازيّ، وبذا يحاول إسباغ الشرعيَّة عليه وتقعيده، ليمسي مسلكًا ونهجًا، من دون أن ترتعش أيدي أصحابه، أو تشعر ضمائرهم بوخز الخيانة.

وسواء جاء المديح والإطناب والتدليس للمستبدّ، على لسان المتنبّي في عصره، أو لسان أيّ كاتب في أيّ عصر؛ فإنه لا يعدو أن يكون خيانة، خيانة لذات الكاتب وضميره ووجدانه وصدقه مع نفسه، قبل أن يكون خيانة للناس الذين تمَّ ظلمهم واضطهادهم واستغلالهم وتغييبهم أو قتلهم، في عهد المستبد الممدوح.

أمر المثقَّف الكاتب في خدمة الحاكم الجائر لا يختلف عن أمر أيّ انتهازي أو تاجر أو متسلّقٍ مراءٍ لخدمة الحاكم، سوى أن لكلّ منهما حقله المختلف وأدوات نشاطه المختلفة، أما جوهر الموقف، فهو نفسه القائم على التزلُّف والخداع والمغانم وما إلى ذلك.

وإذا ما كانت ثمَّة خطورة أكبر تُسند إلى مديح الكاتب، فلأنه صاحب اسم وشهرة لا يملكهما آخرون من المطبّلين للحاكم، القائمين على خدمته، ولأن صوته أشدّ أثرًا وأوسع انتشارًا بين الناس، وكلامه أفعل في التضليل، وأبلغ في سوق الذرائع وبناء الخدع، وتقديمها على هيئة “حقائق للأمانة ولوجه التاريخ”.

بلى، أوقح من ذنبٍ -كما أشرت- القول إنَّ المديح يتلاشى كالزبد، والممدوح يغيّبه الموت ولا يُبقي من أثره وذكره شيئًا؛ في حين يتبقّى لنا من الأديب، والفنان بعامَّة، مُنجزه الإبداعيّ! لكأنَّ مديح المتسلّط ببلاغة رفيعة المستوى يُعفي القصيدة، والنصَّ السردي، من التواطؤ والمؤدّى والضِعَة! اللصوص الناجحون في سطوهم هم الأمهر والأذكى. والمُحتال المغرّر بالناس أقدر على صوغ الكلام وتلوين المنافع وجعل المُغرَّر به يصدّق. ومستدرِج النساء لاغتصابهنَّ أشدّ حنكة وأوغل في الدخول إلى قلوبهنَّ من المحبّ الصادق. والطيَّار يمكن أن يكون ماهرًا ومناورًا ناجحًا في قصف المدن والناس… فهل يعني هذا الاعتداد بمواهب هؤلاء “الباقية”، وتثمين مهاراتهم وأساليبهم؟!

مديح الكاتب للمستبدّين انحياز للظلم، وخيانة سافرة للمظلومين، ووضاعة في شخصه وأخلاقه وثقافته. أما محاولة إضفاء المعاني العميقة والأبعاد على المديح الباطل، كالقول إنه ما مدح لكي يُمجّد، بل “لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة”، أو “كان في مدحه يستبطن تخيّلاته، شهواته، ومطامحه”، أو “كان يُعارض نفسه لكي يثبتها في ما يعارض”، أو “كان يخلق فوضاه الخاصة، في ما يخلق نظامه الخاص”؛ فهو تلفيقٌ للكلام، ولعبٌ على المعنى باللغة، وإيهام مخادع بالعمق لواقعِ شبرٍ من الماء!

سيُفتَضح المديح تمامًا في انقلاب موقف الكاتب المدَّاح عينه، حيال الحاكم المُستبد عينه، انقلابًا كلّيًا، حين يخيب رجاؤه، ولا تتحقق مآربه في نيل الحظوة والعطايا؛ فنراه وقد انقضّ على الحاكم ذامًّا لعهده وحكمه، بأشدّ مما يفعل معارضو الحاكم، وأمهر منهم -فنيًّا- في التعبير عن هلهلة منصبه، وفساد مسلكه، وخفَّة عقله، وبؤس إدارته للبلاد والعباد!

ولعلّ أخطر ما في مديح كتَّاب كهؤلاء لعهد المستبد، تقديمهم صكوك براءة وشهادات تقدير، لطالما رنا الطاغية إلى حيازتها، وسعى للحصول عليها بشتى الإغراءات والحيل، لمعرفته الأكيدة بأن مدائح كهذه، من مبدعين كبار خصوصًا، لا بدَّ أن يسجّلها التاريخ، ويحفظها لصالح عهده، بأكثر من أنين آلام المحكومين، وصرخات أسى المظالم التي جرت بحقّهم.

[ad_1] [ad_2] [sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]