العنف والمقدس


محسن المقداد

شاع في دراسة الظواهر الاجتماعية استخدام التقسيمات الفكرية، كأداة لتفسير التماثل والتنوع، الثبات والتغيير؛ إذ تبدو الظاهرة، كمنصة يصل منها الباحث إلى تفكيك الأيديولوجيات المتضاربة، وإيجاد العلمي خلف الأيديولوجي، لإرواء توق العلوم الحديثة في الوصول إلى مفردات تحدد ماهية الأشياء، بشكل نهائي ودقيق، وفق مفهوم ثابت أو نسق من المفاهيم. ومن الملموس إلى المجرد، شاع للعنف تفسيرات مختلفة (التفسير الاقتصادي– التفسير المجتمعي – التفسير السياسي) ومن هذه المادة الخام المتراكمة ينطلق رينيه جيرار في كتابه (العنف والمقدس). فالمأثور غالبًا ما يكون نتاج عقليات وأزمنة متراكبة، فلا يبقى أمامه -والحال هذه- سوى الاستناد إلى مزدوج الرفض وإعادة الصياغة. ومع القطع الأبستمولوجي للموروث، يتجه رينيه جيرار لكشف طبيعة العنف داخل “الدين” لا خارجه؛ إذ يسلك معه ترجيحًا استقرائيًا كأداة للفصل الموضوعي، وهو تحرز يدرأ الانجراف وراء الموروث، ويخالف بالاعتقاد أن الأمور، في أقصى لحظات فوضاها، تأخذ أبعادًا رمزية، ومنه يصل إلى إبدال حالة العنف نحو الذبيحة في بعدها الرمزي كتفسير جديد للعنف.

الأزمة الذبائحية والإبدال الذبائحي:

تقود الأزمة الذبائحية بمعنى فقدان الذبيحة، إلى صعوبة التفرقة بين عنف مقدس وآخر مدنس؛ مما يجعل تفشي العنف المدنس والمتسم بالتبادل أمرًا يحمل في انتشاره أزمة العدوى، وهنا تجب عملية إيقافه. يقول لنا جيرار “حتى لا تدب الفوضى”، لأنها تصبح غير قادرة على اعتراض مده؛ إذ ينبو عن الاختلاف تعبير جيرار “التوازن هو العنف” بما يدفع إلى الاعتقاد أن العدالة البشرية هي صنع اختلال في هذا التوازن المفترض. هكذا يخلص جيرار إلى أن الأزمة الذبائحية هي بمثابة حصول “انتحار جماعي”، وهو الأمر عينه الذي أقره جول هنري، أمام المشهد الرهيب الذي طالعه لدى شعوب الكيتفانغ. يورد جيرار عن هنري “يكفي أن يرتكب أحدهم جريمة قتل واحدة كي يدخل في نظام مغلق، يُلزمه التمادي في فعل القتل”. يتحدث هنري عن نظام داخلي للقتل وأراد جيرار أن يسوقها بمباشرة ووضوح؛ حيث إن جزءًا من التبادل العنفي هو بين الشركاء، وبناء على الأثنولوجيا، لا يغفل عن الربط بين الدنس الطقسي والتهديد بالانحلال.

يسوق جيرار عن لورنز في كتابه، العدوان حول صنف من الأسماك يستحيل حرمانه من أخصامه العاديين؛ أي أبناء فصيلته الذكور الذين ينازعهم السيطرة على منطقة نفوذ معينة، من غير أن ترتد ميوله العدوانية على عائلته الخاصة، وتخلص إلى تدميرها! يتساءل جيرار -من هذا الباب- ما إذا “كانت الذبيحة الطقسية تقوم على إبدال معاكس، يكون الهدف فيه من تقديم الذبائح الحيوانية، حرف العنف عن بعض الكائنات التي نعمل على حمايتها، باتجاه كائنات أخرى يكون موتها أقل أهمية، أو لا أهمية له على الإطلاق. ربما يتحدث رينيه جيرار هنا عن “النذور” المفروضة، مقابل حياة نرغب في بقائها بعيدة عن الشر.

وفي كلا الأمرين، سواء كان الإبدال الذبائحي لرد الميول العدوانية الذاتية عن العائلة الخاصة، أو دفع الشر الخارجي عنها، لا يبقى للبشر أمام عري عنفهم، سوى إغفاله، وذلك بطرحه على عاتق فرد “مذنب” واحد يتحمله. لن يدهشنا -والحال هذه- أن يكون العنف “لا وعيًا جماعيًا”، يتخذ منذ ولادته، كصورة اختلاف؛ إذ تتسع الأحوال لأنواع شتى من المماثلات والتحولات في العلاقة الإنسانية، لتتمحور حول موت الضحية؛ وبالموت يحدث في وعي الجماعة شعور بالحياة.

من الرغبة المحاكية إلى الصنو المسيخ:

ثمة لدى الإنسان ميلٌ محاك ينبع من الذات، وتنشطه أصوات خارجية؛ إذ يقع في الأمر والنهي المقابل في آن “اقتد بي”، “لا تقتد بي”؛ مما يجعله عبدًا لجلاد غير مختار. إنها في النهاية الوضع الناتج عن الرغائب. فالرغبة من حيث هي حرة في الاستقرار أنى تشاء، تجرها طبيعتها المحاكية لتقع في مآزق الإكراه المزدوج، من خلال الارتماء على عقبة الرغبة المنافسة. فالراغب يعشق العنف ويكرهه في آن، ولا يهبه نفسه إلا لكي يستردها في النهاية. ويرى جيرار أن أكثر الأمور ابتذالًا القول بوجود رغبة لا عنفية يتقاسمها البشر؛ حيث يأخذ العنف صفة الرغبة ويكون “في ذروة الأزمة، هو الأداة والموضوع والفاعل للرغبات كلها معًا”، فإظهار الإنسان كائنًا يعرف تمامًا موضوع رغبته أو يملك “لا وعيًا” ينوب عنه في هذه المعرفة، بكلا الحالتين، يكون “المنافس هو النموذج الذي يقتدي به الراغب، على صعيد الرغبة، أكثر منه على الصعيد السطحي”، ووجب أن يكون موضوع الرغبة قادرًا على منحه “امتلاء كيانيًا” مومئًا إليه برغبته الخاصة لا بالكلام الصريح. ويصل جيرار إلى فكرة قديمة يعيد موضعتها في عمارته الفلسفية وهي أن الرغبة “إيمائية محاكية”، فالنموذج عادة ما يعتبر نفسه أرفع شأنًا من المريد، في حين أن المريد يتساءل قلقًا وينظر إلى نفسه “من خلال الصورة المرتجة التي تقدمها عنه المنافسة المبهمة للنموذج”.

يرى جيرار أن الصنو والمسخ وجهان لحقيقة واحدة، ويأخذ على الأسطورة إظهارها للمسخ وحجبها الصنو، في حين أنه “ما من مسخ إلا ويميل إلى الانشطار وما من صنو إلا وينطوي على مسخية خفية”، فالانحلال المجتمعي وانزلاقه إلى التبادل العنفي يبلغ حدًا من الجنون يفضي إلى الصنو المسيخ. فظاهرة “الصنو المسيخ” تنشأ عن التبادل المجهول؛ حيث هناك دائمًا “آخر” و”أنا”، يفصل بينهما اختلاف مترجح مما يجعل -حسب جيرار- الظاهرات الاستحواذية المعروفة بالمس، تفسيرًا خاصًا لظاهرة الصنو المسيخ. يقول جيرار: “ولا نعجبن إذا كان اختبار المس يظهر أكثر الأحيان بشكل محاكاة هستيرية، يبدو فيها الشخص مسيرًا بقوة وافدة من خارج تدفعه إلى تأدية حركات آلية شبيهة بحركات الدمى”.

فرويد وعقدة أوديب:

تشكل الطبيعة المحاكية حجر الزاوية في طروحات فرويد، ينطلق رينيه جيرار من هذا القطب باتجاه قراءة مختلفة، تدخل في إطار محاولة تعنى بتفكيك المذهب الفرويدي، وتحقيق تفسير لـ “عقدة أوديب”، بالعودة إلى رموز الأسطورة ما قبل الفرويدية، وجمع خيوطها المبعثرة.

يسلم جيرار بوجود صراع كامن في فكر فرويد، بين المحاكاة ودفعها باتجاه التماهي مع الأب وتأصل الرغبة “الغيرانية” اللتين تظهران استقلالية الميل اللبيدي إلى الأم، ومع مراجعة النص الفرويدي، حيث يجد جيرار في جملة “حتى قرب الأم” الواردة في النص، تعطي الشكل المضمر في الرغبة! وفي هذا تناقض ربما يكون بسيطًا، لكنه يخفي أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ يتخذ التماهي بالأب هنا طابعًا عدائيًا. فجيرار ينظر إلى التحاليل الفرويدية لا كنهج مغلق ومتكامل، وإنما كسلسلة من المحاولات التي تطرق الموضوع نفسه في كل مرة؛ إذ يرى أن المفاهيم النظرية التي شكلت عمارة فرويد، كعقدة أوديب والأنا الأعلى واللاوعي والكبت والتجاذب الضدي والخصاء، ما هي إلا سقطات متتالية لجهد مستعاد باستمرار لم يكتمل يومًا، فاللاوعي والكبت هي -حسب جيرار- مفاهيم مربكة ومشوهة، لجأ إليها فرويد لاستحالة إخضاع هذا الوعي للمراقبة، ولم يشأ فرويد أن يتخلى عن الوعي في أطروحاته؛ لذا اضطر إلى التنكر مرتين لكل منطق، واحتمال الأولى، عندما أراد أن يجعل هذا الوعي ممكنًا، والثانية عندما أبطله بتخيله اللاوعي وعاء! تحملنا ملاحظات جيرار على الاعتقاد بأن “عقدة أوديب”، ربما تكون “لحظية”. يدعم ما نسوقه قول جيرار نفسه: “لا يمكن أن يتحول الأب إلى عقبة إلا متى ضعفت سلطته الأبوية التي تقربه من الابن”. يمكن الحديث الآن عن أب موجود بجسده، وغير موجود بسلطته، مما يعني أن مجتمعًا لا يكون فيه الأب “سي السيد” يطلق رصاصة الرحمة على مفهوم عقدة أوديب.

ويجد فرويد أن الذبيحة النموذجية هي في “القتل الجماعي” وهو ما كان يحدث للضحية في صحراء سيناء، في القرن الرابع بعد الميلاد؛ حيث يجري تحديد الضحية “الجمل” وتوثيقها على المذبح، وتشترك القبيلة بكاملها ليفصل كل فرد قطعته من اللحم بسيفه. يقول جيرار: “لقد شدد فرويد على حتمية المشاركة الجماعية في الطقوس، فالمخالفة التي لا يرتكبها الجميع بالاتفاق والتضامن معًا، لا تعدو أن تكون مجرد عمل إجرامي مدمر”. ص 330

وحدة جميع الطقوس:

يخلص جيرار إلى أنه لا يمكن أن يكون بين مفاعيل الطبيعة البشرية والتنوع العظيم في الظاهر، غير وحدة الثقافة الإنسانية بكاملها: الدينية والضد– دينية؛ ويورد مثالين مختلفين بين جماعة “تعمل بحكم الإعدام، كوسيلة لإزالة وصمة الرجس”. (ص 500) أي: كطردٍ عنيف مقرون بفكرة التقوى، وآخر يعتمد “المقاضاة” وتطبيق الإعدام في حالة الجرم المشهود، وما تحمله من طابع شعبي يحمل على التفكير بالعدالة”. يقول جيرار: “الضحية الفدائية هي في أساس نشأة الطقوس الدينية كلها”. ص 513




المصدر