سورية الراهنة… مؤشرات متدنية واتجاهات مظلمة


علاء كيلاني

غيّرت الحرب التي يشنها الأسد شؤونَ الحياة، ومعيشة الناس، تغييرًا جليًا. وعلى نحو مروع، افتقد المجتمع أمنه واستقراره وتماسكه، ضمن بيئة هشة، لا تقل خطورة عما تمخضت عنه الحرب العالمية الثانية، من نتائج طالت جوانب الحياة على اختلافها.

كلّف هذا العبث السلطوي، والإصرار على مواصلة لعبة الموت حتى النهاية، البلادَ خسائر طالت الثروة البشرية، والأصول المادية، والبنية التحتية، وقطاعات الإنتاج.. خسائر ما تزال أرقامها الأولية مفتوحة على احتمالات مخيفة، قد ترهن فاتورتها الباهظة الاقتصاد السوري لعقود قادمة.

في واقع الأمر، يعترف نظام الأسد بجانب من هذا المشهد السوداوي، غير أن حربه المستمرة، تحت شعار “إما أنا أو الطوفان” وتمسّكه بالسلطة كخيار وجودي، تزيد من حجم الخسائر التي تصاعدت أرقامها، وتضع سورية في مهب صراع مديد، من شأنه أن يلتهم ما تبقى من مقومات الحياة، بأبعادها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية.

من الواضح أن تضحية الأسد، بكل ثروات البلاد الوطنية -سواء عبر عقود حكومية مجحفة أبرمها مع حلفائه في الحرب، أو عن طريق ارتفاع قيمة فاتورة صراعه مع شعبه، وحاجة آلته العسكرية إلى مزيد من الذخائر والمعدات، تُسدد أثمانها من موازنات الدولة، دون النظر إلى ما سيعكسه هذا الخيار على المدى البعيد -وفّرت وتوفّر بيئة خصبة لانهيارات متتالية، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وستجعل من تصدع المناعة الداخلية للمجتمع السوري أمرًا لا مفر منه.

تتطابق المؤشرات التي تصدرها منظمات وجهات دولية مستقلة وحيادية، مع هذه النتيجة، ويربط الكثير من المحللين اتجاهات المستقبل في سورية، بتصنيف مركزها ضمن المؤشرات هذه، حيث تقدم الأخيرة صورة واقعية لنمو قطاعات الاقتصاد المختلفة، إلى جانب بيئة الاستثمار، وقطاعات الصحة والتعليم ومشاريع التنمية المستدامة، وغيرها، تنم بالمجمل عن الطريقة المتبعة في رسم السياسات العامة، وأسلوب صنع القرار، وطبيعة المرحلة.

لقد أفقد صراع الأسد على السلطة، سوريةَ الكثيرَ من قدراتها الاقتصادية النامية. ومع أن تردي الوضع السياسي القائم، منذ بداية عهده بات معروفًا “هيمنة أحادية لحزب تقوده عائلة، تسيطر على مقاليد الحكم”. إلا أن تراجع تصنيف سورية على صعيد أهم مؤشرين دوليين، على سبيل المثال، هما مؤشر “الحوكمة” الذي يصدره البنك الدولي “مستويات: المشاركة والمساءلة، والاستقرار السياسي، وغياب العنف، وفاعلية الحكومة، وسيادة القانون” ومؤشر “مدركات الفساد” الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية “بناء على معطيات: إساءة استغلال السلطة من أجل المصلحة الشخصية، والقيود المفروضة على السلطة الحكومية، وغياب الفساد، ووضع النظام والأمن، وحماية الحقوق الأساسية، وإنفاذ النظام، والعدالة المدنية، والعدالة الجنائية”، قوّض بشكل مباشر تماسك المجتمع السوري، وهدد نسيجه الاجتماعي، وخلق فجوة اجتماعية، أسهم فيها ظهور نخب اقتصادية جديدة، اغتنمت ضعف النظام، لتعمق الفساد الحكومي، من خلال سيطرتها على مراكز حيوية في قطاع الخدمات العامة، وعلى معظم واردات البلاد من المواد الأساسية، عشية تراجع الإنتاج الصناعي وتدهور قطاع الصناعات التحويلية، وانهيار إنتاج القطاع الزراعي.

خلال سنوات الحرب، تعذر على البنك الدولي إجراء مسوحات وبحوث ميدانية، يستفيد فيها من تجارب وملاحظات الأفراد ذوي العقلية الإصلاحية، داخل الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص؛ لتثبيت مركز سورية على لائحة المؤشر العالمي للحوكمة. ومن الطبيعي أن يغيب تصنيفها عن معظم التقارير الأخيرة، إذا ما عرفنا أن أول معايير المؤشر تعتمد على قدرة مواطني الدولة على المشاركة في اختيار الحكومة، مع ضمان توفر ثلاث حريات، تشمل على التوالي حرية التعبير، وحرية تكوين الأحزاب والجمعيات، وحرية الإعلام. وجميعها في الحقيقة حقوق مغيبة، منذ أن تولى الأسد الأب السلطة، عام 1970.

في عام 2012، صُنِفت سورية بالمرتبة 144 في تقرير مدركات الفساد، وبحسب منظمة الشفافية العالمية، هبط تصنيفها في عام 2013 إلى المرتبة 168، فيما تراجعت تاليًا إلى المرتبة 173 من أصل 176 بلدًا في عام 2016، لتصنف ضمن مجموعة الدول العشر الأكثر فسادًا على مستوى العالم.

يُعرف الفساد بأنه “إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب خاصة”، وكثيرًا ما أدى الفساد السياسي في سورية، إلى التلاعب بالسياسات الاقتصادية، ومؤسسات القطاع العام، وإجراءات تخصيص الموارد والتمويل، من جانب قيادات البعث والحكومة، للحفاظ على سُلطاتهم وثرواتهم. ومع تزايد تأثيراته السلبية، تربط منظمة الشفافية الدولية، بين الفساد واستنزاف الثروات الوطنية، “فالسياسيون الفاسدون يستثمرون موارد عامة شحيحة في المشاريع التي ستلائم جيوبهم بدلًا من أن تعود بالفائدة على المجتمعات المحلية، حيث تعطى الأولوية للمشاريع البارزة، مثل السدود ومحطات الطاقة وخطوط الأنابيب ومصافي التكرير، على مشاريع البنية التحتية الأقل إثارة، ولكنها أكثر إلحاحًا مثل المدارس والمستشفيات والطرق”.

إن العلاقة الطردية، بين الفساد وعدم المساواة بأشكالها المتنوعة، أفسدت النسيج الاجتماعي داخل البلاد، وأدت -على المستوى العام- إلى تفشي حالة من الحرمان، عانى منها أغلب السوريين تحت حكم عائلة الأسد. وكما فشل النظام الشمولي في تأمين متطلبات الحياة الأساسية، وتوزيع الثروة القومية توزيعًا عادلًا، أخفق أيضًا، في التوصل إلى عملية تنموية متكاملة، تعكس نتائجها تطلعات الشعب الى بناء نظام ديمقراطي فعال، يوفر مساحة للمساءلة والمحاسبة.

في مؤشر الازدهار العالمي لعام 2016 الذي أصدره “معهد ليجاتوم البريطاني”، وشمل 149 دولة، غابت سورية عن القائمة، بسبب طموحات ديكتاتور جرّت حربه الويلات لأكثر من 10 ملايين سوري. لكنها حضرت في مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره “منظمة مراسلون بلا حدود”، ونالت المرتبة 177 من أصل 180 دولة، مصطفة إلى جانب أرتيريا وكوريا الشمالية، كأخطر البلدان على حياة الصحفيين في العالم.

في الحكم الصالح، يرى الناس أنفسهم جزءًا من وحدة متماسكة، تزدهر أوضاعها، كلما ارتفعت نسب النمو، وتحققت العدالة في توزيع الثروات. وفي حكم الأسد، وجد الناس أنفسهم أجزاءً في غابة تتصارع عليها الجماعات والمصالح، تردت الحياة فيها إلى أدنى مستوى تشهده دولة على خريطة العالم.




المصدر