منذُ عشرينَ انتظارًا


قصي زهر الدين

فتحتِ الشباكَ على مصراعيه، تأملت الغروبَ الضيّق خلفَ الزجاج الرطب، ثم أغلقتِ النافذة. لتبقى أسرارها حصينةً في وجه الضوء، جلست على كرسيّ من الخيزران، وأخذت تفكّر في الأمس الذي تجلى حينها كمرآةٍ شاسعة، مرآةٍ لا تقوى العتمةَ على اقتناص أغوارها.

هي الآن في الرابعة والثلاثينَ من الشِّعر، إنه هنا:

رددت في عمقها الذي يشبه شحوبَ المكان.

وكان الصدى يرتّب لها الكلامَ الذي لم تقله، كريحٍ هادئةٍ تضع بردها في أعشاشِ الغرفة وزواياها.

تنظر إلى عقاربِ الساعة، المنذورةِ للحركة، تلك التي لا يسعفها صمتٌ أو سكون، تطيل النظر، ثم تربتُ ببياض يدها على بياض يدها، وترسلُ إشاراتٍ خفيّة محمولةً على جنح الرغبة؛ الرغبة بالحب، بالأمومة، بالتكاثر، بالبكاء، بالنزيف على جدار أحدهم، الرغبةِ بالرغبة.

***

تشعل سيجارةً من التبغ الرديء، وتسعلُ ملءَ الفراغ الذي يملأ حيزًا رطبًا، في مدينةٍ رطبة، تجرأت عليها العناكبُ فرمت بيوتها شباكًا رخصةً على القناديل الغارقةِ بنعومتها، والبيوت والشوارع والأزقة الركام.

تفتش في أدراجها الخشب عن أشياء تركتها يدُ الصدفة، فتلتقط بيديها الشاحبتين أصدافًا صغيرةً ورسائلَ وعلبًا ملونة مختومةً بشرائطَ مذهّبة وبأقفالِ الغياب.

بعد قليل ستصنع فنجانينِ من القهوة، وستضعهما قبالةَ بعضيهما، ستجلس على كرسي الخيزران، وستقول له أشياءَ كثيرةً عن الحب والمواعيدِ التي بللتها أصابع المطر بماءِ الانتظار. ستحدثه عن شعرها الأطولَ من كلمة “أحبك”.. شعرها الذي ما زال ينحاز ليدٍ عبثت به طويلًا قبل أن تبترها سكين الحرب، ستحدثه -أيضًا- عن نهديها الوحيدين كسؤالينِ بلا إجابة، عن غمامة عطرها التي ما زالت تميلُ على قميص غيابه.

ستحدثه، ستحدثه عن بقاياه:

عيناي شاسعتانِ كالحزن، وأنا غريبة مثل ظلٍّ على سكة الحجاز، وأنا غريبة مثل قنديلٍ يرتجف للعتمة، وأنا غريبة مثلَ لوحةٍ في صالةِ مهجورة، أنا غريبة وحزينة كموّالٍ عراقي. أحشو قلبي بالقطن والعصافير، وأبتسم لسماءٍ تنحني للمقصلة. أقبضُ بأصابعي على كفي، فيسيل دم الفراغِ أزرقَ، قلبي يؤلمني، وهذا الشارع يؤلمني وتؤلمني اللحظةُ التي هربت من قيدِ رغبتنا بالبقاء- البقاء الأسير.

ودّعنِي إذًا بشرائطَ حمراء وموسيقى هادئة لـ “رحمنينوف”، اصنع لطفولتي الماجنة قاربًا ورقيًا لا يغرق في امتحانِ الماء للماء، اصنع لصِبايا غدًا أعلى من أسوارِ القبيلة، وشمعةً أكثف ضوءًا من احتراق القمر فوق كفّي.

حبالُ المطر خارجًا تؤنسُ المشهدَ بصفعاتٍ على أوراق شجرة الكينا، وتُزيح عن الشوارع غبارَ الأقدام التي مضت، ثم تهربُ سريعًا منزلقةً إلى المزاريبِ التي تنحدر من مغاليقِ السماءِ وشبهاتها.

بعدَ قليلٍ سيطرق الباب، وسيدخل بمعطفه الشتوي، المبلل -دائمًا- برائحتها، ستحرث الأرضَ ركضًا إليهِ مثل طفل، مثل أنّها الأنثى الوحيدة في شاسعِ كونه الضيق، ستعانقه عن ألف عامٍ مضت، وستقبّل وجنتيه ورأسه وما استطاعت منه، كأنه لم يغادر قط.

ستهيئ له الموسيقى التي يحب، النبيذَ الأبيض، وباقة من شعرها ستنسحب -فيما بعد- حريرًا أسودًا فوق كتفيهِ العريضتين.

“انتظرتُك عشرينَ قمرًا وحربًا كاملة”:

تقول له،

ثم تنحني على صدره كلاجئٍ أخير، وتحدثه عن الأوراق التي تساقطت من جسدها النحيل، وعن عيون المارة تختلسُ نهدها العميق وحزنها الأوسع من غربة.

“انتظرتُكِ جيلًا من الكلام”:

يقول لها،

ويمرر يده على قمحِ جسدها، فترتعش كطيرٍ وتنتهي إلى يديهِ يمامةً زرقاء، ثم تستسلم للرقص حافيةً، على أرضٍ من زجاج..

يجلس الآن على حافة السرير، بينما تذرع بخطواتها المنسجمة بلاط الغرفة، وتقرأ له شعرًا لمحمد الماغوط:

“قبورنا معتمةٌ على الرابية

والليل يتساقط في الوادي

يسير بين الثلوج والخنادق

وأبي يعود قتيلًا على جواده الذهبي

ومن صدره الهزيل

ينتفض سعال الغابات

وحفيف العجلات المحطمة

والأنين التائه بين الصخور

ينشد أغنيةً جديدة للرجل الضائع

للأطفال الشقر والقطيع الميت على الضفة الحجرية”

يصغي لناي صوتها بصمت حزين، ويبتسم، ربما ليهذّبَ الفراغَ البارد الذي يمد ذراعيه بينهما.

يمرّ ليلُ آخر، وشتاءاتٌ تعبر المشهدَ بحبالها الماء، وبسَكينتها المطمئنّة.

هي الآن ممددةٌ على السرير، تقرأُ سِفر الأولين:

أنكيدو لم يمت بعدُ، وجلجامش يبحثُ بين القبورِ البيضِ، عن سكنٍ دافئ، أنكيدو لم يمت، وسيدوري ما زالت توزّع النبيذ على دنان الآلهة.

تسمعُ صوته قادمًا من الغرفةِ المجاورة، صوته النبيل، فتركض لاهثةً، لتفتحَ الباب أو الجدار أو الظلال أو…

لتفتحَ كل ما يمكّنها من الوصول إليه.

يده في يدها طفلانِ ساكتان يقطعان الشارع إلى الضفةِ الأخرى، تشتري له شالًا أزرقَ كبركتي عينيها:

هو رائحتي التي لن تغادر عنقك، تقولُ وتبتسم وتضحك وتنهزم وتتداعى وتبكي وتفرح، تضغط على أصابعهِ بقوة الهائلِ الذي يعتصر قلبها الرطب، تشده إليها فيتلاشيانِ في ظليهما.

في البار، لا مسافةَ بين جسديهما سوى خشب الطاولة، وانتباه الزبنِ لهديرِ عينيهما ولمعانِ شفاههما المكنوزين بكلامٍ يسقطُ أزهارًا وجثثًا وأوراقًا صفراء.

يرقصان وكأنهما طيران في سماءٍ لا حدودَ يقتنصها لهبٌ أو إشاراتٌ للوداع. يرقصان والريحُ بينهما تنزاحُ عن عطرٍ خفيفٍ وعناقاتٍ تشافهُ الروح بطمأنينتها.

يرقصان، أو ترقص وحيدةً بخيالاتها المنسوجةَ بنولِ غيابه، يشربانِ القهوةَ، أو هي تشرب فنجانها وفنجان انتظاره، يتعانقان، أو هي تعانق ظله، يضحكان، أو هي تشدّ شفتيه من مكمنهما البعيد، يتحدثان، أو هي تكرر الصدى محمولًا على جنح الأمل، تقف محاذاته، أو هي تقف قبالةَ صورتهِ الثابتةِ كلوعتها في صدرِ الجدار.

أسئلةٌ يكررها الفراغ على أذني المشهد.. المشهد المخفور بوحدتها.

***

فتحتِ الشباكَ على مصراعيه، تأملت الغروبَ الضيّق خلفَ الزجاجِ الرطب، ثم أقفلتِ النافذة، جمعت شتاتها وحرثت الأدراجَ نزولًا حتى الدوار الأخير الذي يشدّ بجسدها إلى الأرض، وقفت -كعادتها- أمام شجرةِ الكينا، محاذاةَ المحطة القديمة، تسألُ المارةَ -وفي صوتها جرحٌ- عن عينيه الواسعتين، ابتسامته الدقيقة ومعطفه الشتوي، ثم بيدين ترتجفان تُخرجُ من حقيبتها باقةً من الزهر، كانت قد ذبُلت.. منذ عشرينَ انتظار.




المصدر