إصبعٌ على الكيبورد.. وآخرُ في عين الكارثة


علا حسامو

لا تمثالَ للحرية في سورية، ولا أجنحة للبشر، الخارطةُ ليست ورقة مصفرة على وشك السقوط، والبيوت المهدمة لا لونَ لها سوى رمادي الحزن! والأجساد المنهوبة المنكوبة لا ترفرف كبالوناتٍ في ليلة عيد!

ولكن، في الحقيقة -والحقيقة ابنة عمّ الخرافة- كل هذا حصل عبر الفن الرقمي، وخصائصه التي سمحت للامعقول بالتزاوج مع المعقول، وللمجاز أن يصبح واقعًا نراه بأيدينا، ونلمسه بقلوبنا.. الفن الرقمي الذي تمكن الفنانون، في عالمه الفريد، من شقلبة الواقع وخلط عناصره بعضها ببعض متجاوزين الحدودَ الضيقةَ للمنطق.
كثيرةٌ هي أسماءُ الفنانين الذين تركوا أدوات الرسم التقليدية جانبًا، والتجؤوا إلى هذا الفن الذي اشتعلت ثورته، وامتدت منذ خمسينيات القرن الماضي، لتصل إلينا وتنتفض بقوةٍ مع الثورة السورية؛ فبرز عدة فنانين سوريين، رفعوا لوحاتهم الرقمية في وجه الظلم والقتل والتهجير، وثقوا وصرخوا، استهزؤوا وبكوا وناضلوا بفنهم هذا، ولا يزالون.. كتمام عزام، صدقي الإمام، وسام الجزائري، ياسر أحمد، مصطفى يعقوب، وعمرو فهد.. وغيرهم.

الفن الرقمي ليس بديلًا، إنه وسيلة سريعة لمجاراة الحدث.

يقول عمرو فهد: الفن بحثٌ لا ينتهي، والفن الرقمي هو تطوير للأدوات، تجربة بل مشروع، بدأته منذ ست سنواتٍ ولا أزال أعمل عليه. لا يمكن لفن أو نمطٍ فني أن يكون بديلًا لآخر، إن ما نحن فيه من ثورةٍ وأحداثٍ متسارعةٍ وتغيرات، يتطلب أدواتٍ سريعة تعبر عنه وتجاريه، وقد وجدت الفنَّ الرقميَّ وسيلةً مناسبةً ومهمّةً للتعبير عما يحدث في البلد.

اضطرَ بعض الفنانين السوريين إلى مغادرة البلد؛ ليجدوا أنفسهُم بلا أي أداةٍ أو مادةٍ للعمل، فاستثمروا وسائل التكنولوجيا المتاحة، ودخلوا عالم الفن الرقمي استكمالًا لمشاريعهم الفنية ولمسيرتهم الإنسانية في دعم ثورة الإنسان السوري. لكن ذلك لن يبعدهم عن الرسم بالأدوات التقليدية.

الفن الرقمي في سورية تجربة جديدة نسبيًا، ويمكن القول إنها خجولة، ومع قيام الثورة برزت وانتشرت. يقول بعض الفنانين إن الفضل في ذلك للثورة أولًا وأخيرًا، فقد كسرت القيود، وحررت الفن الذي كان سجينًا في قفص الرؤية الواحدة والقبضة التي كانت تمسكُ كل شيء، تسيرهُ على مزاجها، وتشكلهُ بما يخدم مصالحها وسلطويتها.

وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في توسيع دائرة الانتشار؛ لتحتل اللوحات الرقمية وأسماء مبدعيها السوريين مساحاتٍ مهمة، في كل مكان، ليس فقط من العالم الافتراضي، إنما لتجولَ العالمَ الواقعي في معارضَ كثيرةٍ حول العالَم.

لكن ما الهدف الذي تسعى هذه اللوحات لتحقيقه؟!

الفن الرقمي وثيقة.. غاية.. وقوة للمستضعفين.

يقول مصطفى يعقوب: على الرغم من استخدامي هذا الفن للتعبير عن معاناة السوريين في الحرب واللجوء ومحاولة إيصال هذه الرسائل إلى العالم، إلا أنني أعتقد أن من الخطأ ربط الفن بهدفٍ أو غاية، فالفن -برأيي- هو هدفٌ وغاية بحد ذاته، حين يعبر بحريةٍ عن أعمق وأعقد المشاعر الإنسانية.

أؤمن أنه في معركة، أي معركة، غير متوازنة الأطراف يكون الفن هو الموازن الروحي والمعنوي للطرف الأضعف، يسانده ليصمد أكثر ويدعمه، فلا ييْئس أو ينهار، وهذا هو السبب الرئيس لغنى الثورة السورية واهتمامها بالفن، بمختلف أشكاله.

أما بالنسبة إلى عمرو فهد، فالفن مشروع وآلية للتوثيق، وهو يرى أن التاريخ يومًا ما سيُكتَبُ مرةً أخرى لصالح جهاتٍ معينة قد تكون –من وجهة نظرها- المنتصرة، وعلى حساب جهاتٍ أخرى، قد تكون “المهزومة”، الوثيقة الوحيدة الصادقة هي الأعمال الفنية من نحتٍ، رسمٍ، وزخارف وغيرها، فهي التي تحكي حقيقة ما جرى في حقبةٍ ما.

يضيف عمرو: “التوثيق هو أقل ما يقدمه الإنسان في هذه المرحلة اللاإنسانية، ولا يمكنني -كفنان- أن أكون بعيدًا في بحثي الفني عما يجري في بلدي، أعملُ لأوصلَ ألم الناس إلى العالم كله”.

أجنحة ملائكيةٌ للأطفال.. ومنحوتاتٌ عالميةٌ وسط الدمار.

عند متابعتنا للوحات الرقمية للفنانين السوريين، نجدُ أن لكل منهم ثيمةً يعملُ عليها، وعنصرًا خاصًا به يستخدمه في أغلب لوحاته، ويكرره هنا وهناك، مضفيًا عليها معنىً خاصًا، فكرةً ورسالة..

في لوحات مصطفى يعقوب، نجدُه يدمجُ صورًا واقعيةً، لأحداث ومناطق مختلفة من البلد، مع صورٍ لتماثيل عالمية، كما نرى الخرائطَ هنا وهناك، في وضعياتٍ مختلفة، وعن ذلك يتحدث مصطفى:

الخريطة السياسية أو الجغرافية مادة فنية ذات دلالات كبيرة، يمكن الاستفادة منها لإيصال فكرة فنية أو سياسية معينة، فيمكننا التعبير عن دولة أو شعب أو عن التغيرات والصراعات السياسية، باستخدام الخريطة. وربما يعود استخدامي للخرائط إلى سببٍ بعيد في اللاوعي، هو ضياع السوريين بين الخرائط بحثًا عن وطن أو بقيةٍ من خريطة.

أما بالنسبة للمنحوتات والتماثيل العالمية، فأرى فيها مادة فنية غنية جدًا، وذات دلالات رمزية كبيرة، خصوصًا في عقلية المواطن الغربي الذي أتوجه إليه في الكثير من أعمالي.

يشعرُ الناظرُ إلى لوحات عمرو فهد بأن شيئًا ما مشوشًا، وثمة أجنحةٌ تلوحُ لأطفال تلوحُ المأساةُ على وجوههم، وعن ذلك يقول: “شغلي الأساسي واهتمامي هو سكان المخيمات، ولا سيّما الأطفال، هذه الشريحة التي تحيا معاناة قاسية، وتعيشُ في أصعب الظروف، أشعرُ وأؤمنُ أنهم يتجلون أمامي كملائكة، والأجنحةُ هي تعبيري عن ذلك، فالألم الإنساني الذي يلف هؤلاء الأطفال يسمو بهم إلى مصاف الملائكة.

أما التهشير، فهو أسلوبٌ وتقنيةٌ تعبّر عني، وعن ميلي للحس الغرافيكي، فأشعرُ وكأنني أعملُ بقلم فحمٍ أو رصاص أو بإبرةٍ على صفيحة نحاس.

يتعرّضَ كل نمط فني وكل مدرسة، في البدايات، إلى محاربةٍ من أتباع المدرسة التي سبقتها، والفن الرقمي كغيره خاضَ -وما يزال- معركةً وجدلًا بين أصحاب الفنون، لكنه أثبتَ أن الفكرةَ هي الأمّ، وأن الأدوات -مهما اختلفت- يبقى الفن فنًا وعينًا ثالثةً أو رابعةً، ترصدُ الواقعَ بكل تفاصيله.. وها هم الفنانون الرقميون -بفنيةٍ وروحٍ عاليتين- يصنعونَ لوحاتهم التي تعرضُ الكارثة أمامَ أعيننا كملكةٍ بكامل حليها، ثم -بكل جرأةٍ- يضعونَ إصبعًا على الكيبورد.. وآخر في عينها.




المصدر