الديمقراطية والمجتمع المدني


مهيب صالحة

تتعدد الاجتهادات حول مفهوم المجتمع المدني، بتعدد زاويا الرؤية، وبتطور المفهوم، من حيث طبيعته وأشكاله وأدواره، فالمعنى الشائع للمجتمع المدني هو “المجتمع السياسي” الذي يحكمه القانون تحت سلطة الدولة، لكن المعنى الأكثر شيوعًا الذي انتهت إليه حزمة التطورات الحاصلة في المجتمعات الديمقراطية، وأهمها فصل السلطات والعلمانية والاختيار الحر والمسؤولية الفردية والمسؤولية المجتمعية والشفافية والحوكمة، هو تمييز المجتمع المدني عن الدولة، بوصفه فضاءً لنشاط المنظمات التطوعية والاتحادات مثل النوادي الرياضية، والمنتديات المجتمعية، وجمعيات رجال الأعمال مثل غرف التجارة والصناعة، وجماعات الرفق بالحيوان والبيئة، وجمعيات حقوق الإنسان، واتحادات العمال والنقابات المهنية، وجماعات الضغط المختلفة. أي المجتمع المدني الذي وصفه إدموند بيرك بـ “الأسرة الكبيرة”. هذه المنظمات غير الحكومية وغير الربحية تعبر عن اهتمامات وقيم منتسبيها أو قيم الآخرين الذين تستهدفهم، بالاستناد إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية.. تنشأ أساسًا للعمل على نصرة قضية مشتركة. ويشكل استقلالها عن الدولة وعن القطاع الخاص، في النظام الديمقراطي، عاملًا مهمًا للحوكمة، من خلال التشاركية بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. وتجدر الإشارة إلى اتساع معنى المجتمع المدني، من زاوية النظرة الاقتصادية، ليشمل الشركات والمؤسسات الأهلية في مضمار الإنتاج والتجارة، والتي تساهم بفاعلية في زيادة فرص العمل وتخفيف العبء عن الدولة، فمعظم الشركات الكبيرة في ألمانيا والنمسا مثلًا كـ (سيمنز، ودايملر بنز غروب للحديد والصلب، وباير للصناعات الكيميائية والدوائية..)، هي شركات مساهمة أسست من قبل الأهالي، وتمثل منظومة قوية للتضامن الاجتماعي، وتحقيق الرفاهية للمساهمين، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي للدولة والمجتمع.

لقد أتاحت الدولة الديمقراطية بيئة مواتية للأفراد؛ لتشكيل مصايرهم ومساعدة الآخرين، ويفسر ذلك وجود مجتمع مدني، يتصف بالمرونة والحيوية في صورة منظمات مستقلة عن الحكومة، تشكل ملمحًا أساسيًا للديمقراطية الليبرالية. أما الدولة الشمولية فلا تقيم وزنًا للمجتمع المدني بل إنها تناصبه العداء، وفي أقصى حالات قبوله تهيمن عليه سلطة الاستبداد، وتعمل على تفريغه من محتواه وحرف أهدافه، وهذا ما دفعَ الباحثين، بعد انهيار المنظومة الشيوعية، إلى وصف نمو التجمعات خارج نطاق الدولة بعودة المجتمع المدني.

لقد نظرت الماركسية إلى المجتمع المدني نظرة سلبية، فيها الكثير من الريبة والحذر، عبّرت عنها بوضوح نظريتها الطبقية؛ ما أدى في آخر المطاف إلى تهميش دور المجتمع المدني، لحساب تقوية الدولة المتماهية إلى حد بعيد مع السلطة ومع الفرد القائد، لكن التاريخ كشف بمرارة، وبما لا يترك مجالًا للشك، عقمَ دولة الاستبداد وفشل سياساتها تجاه المجتمع المدني.

إن حالة المجتمع المدني، في ظل دولة الاستبداد في المجتمعات الشيوعية، هي حالة عامة تلتصق بالدولة الاستبدادية، أينما وحيثما كانت، لأن الاستبداد نقيض المجتمع المدني، ولا يمكن أن يسمح له بالعمل والنشاط بحرية، وإن حاول غض النظر عن بعض نشاطات التجمعات الحديثة في ظروف معينة -كما هو حاصل في سورية الآن- فهو بالتأكيد لتنفيس حالة الاحتقان الراهنة، وبخاصة في أوساط جيل الشباب المتذمر أو الثائر على الاستبداد وسياساته، ويدلل على ذلك المواقفُ العدائية للسلطة وأحزابها ومواليها، تجاه المجتمع المدني، وغياب أيّ تشريع خاص به، ونعتُه بـ “المجتمع الأهلي” تارة أو نكرانه تارة أخرى، ويندرج في هذا السياق الخطير دعوة البعض المجتمع المدني للعمل السياسي، سواء تحت عباءة السلطة أو تحت عباءة المعارضة، بحجة أن أي نشاط إنساني -بما في ذلك عمل المجتمع المدني- هو عمل سياسي، متجاهلًا، عن غير قصد أو عمد، أن المجتمع المدني ليس في ذهنيته أو نشاطه أو سلوكه أيّ نية للوصول إلى السلطة لا بانتخابات ولا انقلابات ولا ثورات ولا جبهات ولا ائتلافات… إنما ميزته الرئيسة العمل التطوعي، خارج دائرة العمل الحكومي، من خلال نشر المعلومات حول السياسات، أو ممارسة الضغوط حيالها أو تعزيزها، وتقديم خدمات متنوعة لقطاعات واسعة في المجتمع، تصب في المحصلة في خدمة المجتمع عامة.

إن المجتمع المدني، في ظل الديمقراطية، شجرة مثمرة تمنح طيّباتها للأفراد والجماعات، بينما هو، في ظل الاستبداد، ما يزال غرسة، ربما تعيش ببطء شديد مع معاناة قاهرة، وفي الأعم الأغلب، لن تكتب لها الحياة.




المصدر