المحاكم السورية لا تلتزم بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة


ميشال شماس

صادقت سورية على أغلب الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، ولاسيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي في الحقوق السياسية والمدنية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية الطفل، واتفاقية منع جميع أشكال التمييز العنصري، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأكدت جميعها على حماية حقوق الأفراد، سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا، أطفالًا أم شيوخًا، وذلك منذ لحظة القبض عليهم، وأثناء احتجازهم قبل تقديمهم إلى المحاكمة، وعند محاكمتهم، وحتى آخر مراحل الاستئناف والنقض. واعتبرت عدم الالتزام بها يمثل انتهاكًا كبيرًا لحقوق الإنسان، كالزَّجّ بالأفراد في السجون، لأسباب تُدْرجهم في عداد سجناء الرأي والتعذيب، واستخدام العقوبات القانونية التي ترقى إلى حد التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.

إن تصديق السلطات السورية، على تلك الإعلانات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، لم ينعكس إلا حبرًا على الورق، فمن يطلع مثلًا على الدستور السوري الصادر عام 2012 ومختلف القوانين السورية، فسيلحظ بوضوح على أنها اشتملت على الحق ونقيضه، فمثلًا نص الدستور على اعتبار التعذيب جريمة معاقب عليها، لكن على أرض الواقع، يجري التعذيب على نطاق واسع وممنهج في كافة السجون والمعتقلات الأمنية. ولا يستطيع الضحايا اللجوء إلى القضاة لمقاضاة المجرمين، بسبب وجود قوانين تحمي الجناة وتمنع من ملاحقتهم ، كما في قانون إحداث إدارة أمن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي، رقم 14 تاريخ 25/ 1/ 1969، حيث نصت المادة 16 منه: (لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة عن الجرائم التي يرتكبونها، أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير)، وكذلك المادة 74 منه منعت حتى ملاحقة المنتدبين أو المعارين إليها أو المتعاقدين معها مباشرة أمام القضاء، في الجرائم الناشئة عن الوظيفة، أو في معرض قيامه بها قبل إحالته على مجلس التأديب في الإدارة، واستصدار أمر ملاحقة من قبل مدير إدارة المخابرات العامة. والمرسوم رقم 55 لعام 2011 الذي منح سلطة توقيف واسعة لعناصر المخابرات دون مساءلة. والمرسوم التشريعي رقم 69 لعام 2008 الذي حصر قرار ملاحقة عناصر الشرطة والأمن السياسي والجمارك المتهمين بممارسة التعذيب، بوزير الدفاع وأمام القضاء العسكري، رغم أنهم يتبعون إداريًا لوزارة الداخلية، وليس للقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة. أما حق اللجوء إلى القضاء، فبالرغم من النص عليه في الدستور، إلا أن السلطة عادت وحجبت هذا الحق بنصوص القوانين، كما في المادة 137 من قانون العاملين الأساسي في الدولة رقم 50 لعام 2004 التي منحت رئيس مجلس الوزراء الحق في صرف أي عامل في الدولة، دون إبداء السبب، والقرار الصادر بهذا الشأن غير قابل للطعن أمام القضاء. والمادتان 107 و108 من قانون تنظيم مهنة المحاماة رقم 30 لعام 2010 اللتان أجازتا لرئيس مجلس الوزراء حل المؤتمر العام ومجلس النقابة ومجالس الفروع العام ومجلس النقابة ومجالس الفروع، بقرار مبرم وغير قابل للطعن أو المراجعة. والمادة 7 من قانون الاستملاك التي نصت على أن (مرسوم الاستملاك مبرم وغير قابل للطعن أو المراجعة).

وكذلك الوضع في محكمة الإرهاب لا يختلف كثيرًا، حيث يجري استجواب المتهمين أمامها في ظروف بالغة السوء، من قبل قضاة فاقدي الاستقلالية، ولا يسمح للمتهم بالحديث مع محاميه، ويتم استجوابه في كثير من الأحيان من دون محام، كما لا يسمح للمحامي بتصوير ملف القضية، يضاف إليها السطوة الكبيرة لعناصر الأمن الشرطة وتدخلهم في عمل المحكمة.

أما الأمر الأكثر خطورة ومأسوية، فيتمثل بوجود محاكم الميدان العسكرية “محاكم العار” المحدثة بالمرسوم رقم 109 لعام 1969 التي أعفاها المشرع من التقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في القوانين، وتعقد جلساتها في مكان سرّي في أي مكان تريده، ولا تسمح أبدًا لأي كان بمراجعتها، ويمنع المحامي من الترافع أمامها، كما تصدر أحكامها بصورة مبرمة، لا يمكن الطعن بها.

وهكذا لم يكفِ النص في الدستور على بعض المعايير الدولية للمحاكمة العادلة، ولا التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، لوصف المحاكمات السورية بأنها عادلة. فالنص على تلك المعايير -على أهميته- لا يكفي لوحده، ما لم يترافق التصديق والنص بإلغاء وتعديل القوانين التي تتعارض مع نصت عليه المعاهدات والمواثيق الدولية، ودعمها بمؤيدات جزائية تردع المخالفين لها من الحكام أو المحكومين على السواء، وما لم يترافق أيضًا بخضوع الدولة للأحكام التي يصدرها القضاء وتنفيذها دون إبطاء، وعدم التدخل في شؤون القضاة والقضاء وضمان استقلاله.

طموح السوريين اليوم في أن يروا دولتهم تقف على مسافة واحدة منهم، وأن تكون كرامتهم فيها مصانة وحقوقهم محفوظة، وأوّل خطوة في هذا الاتجاه هي استكمال التصديق على المعاهدات الدولية ذات الصلة، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وتعديل نصوص القوانين التي تمنع حق التقاضي الدولة السورية، وصياغة دستور وطني يتفق وأحكام هذه المعاهدات، والتأكيد على أهمية الالتزام بالمعايير الدولية للمحاكمات العادلة وضمان تنفيذها بمؤيدات جزائية، ويأتي في مقدمة تلك المعايير:

1- حق المواطنات والمواطنين السوريين في المساواة أمام القانون وفيه، بعيدًا عن أي تمييز في الرأي والدين واللون والجنس والعرق.

2- حقهم في عدم التعرض للقبض عليهم بشكل تعسفي، وإبلاغهم حقوقهم قبل مباشرة التحقيق، وسبب القبض عليهم وتوكيل محام، وإبلاغ أسرهم بخبر القبض عليهم ومكان احتجازهم، وحرية التواصل معهم، وعرضهم على القضاء بسرعة، والإفراج عنهم بكفالة.

3- حقهم في عدم احتجازهم في أماكن وأوضاع غير إنسانية، وعدم التعرض للتعذيب، والتحقيق في مزاعم التعذيب وعدم الاعتداد بأقوالهم المنتزعة منهم تحت التعذيب، وعدم إجبارهم على تجريم أنفسهم.

4- حقهم في افتراض البراءة، تطبيقًا لمبدأ “كل شخص متهم بجريمة يُعتبر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه”، وسرعة البت في قضيته في محاكمة علنية، أمام محكمة مختصة ومستقلة وحيادية منشأة بحكم القانون، وتوفير كافة ضمانات الدفاع وحضور المحاكمة والاستعانة بمترجم ومناقشة الشهود. وعدم محاكمتهم مرة أخرى بالجرم نفسه.

5- أن تكون السلطة القضائية مستقلة وحيادية، أي أنّ القضاء يجب أن يتمتع وحده بسلطة الفصل في المنازعات بين الأفراد وبين الدولة والأفراد. ويجب ألا تتعرّض الهيئة القضائية ككل، وألا يتعرض كل قاضٍ على حدة، إلى التدخل في عمله من جانب أفراد بعينهم. ويجب أن يتمتع القضاة بحرية الحكم في المسائل المعروضة عليهم استنادًا إلى الحقائق الثابتة وبموجب القانون، بعيدًا عن التدخل أو المضايقة أو التأثير من جانب أي فرع من فروع الحكومة أو الأفراد بصفتهم الشخصية.

إن إدراكنا اليوم يجب أن يتركز على فهم أفضل لحاجتنا إلى العدالة، وأهميتها في بلادنا التي نعاني فيها أطفالًا وشبابًا ونساءً ورجالًا من الظلم منذ عقود طويلة. كما يجب أن يدفعنا باتجاه تطوير مناهج التربية والتعليم في مدارسنا، وتضمينها مواد تتدرج في أفق التربية على احترام القانون وحقوق الإنسان، وإنشاء مقاعد في الجامعات تهتم بالقضايا الفكرية والسياسية والقانونية التي يطرحها موضوع حقوق الإنسان في بلادنا والعالم، كل ذلك بهدف تعليم أولادنا منذ الصغر على أهمية احترام حقوق الإنسان، حتى عندما يكبرون يصبحون على معرفة بحقوقهم المتأصّلة وبأهمية كرامة الإنسان وحريته، ويكسبون المهارات التي يحتاجونها لمنع أي انتهاكات قد يتعرضون لها في حقوقهم، والقدرة على تغيير الأوضاع السيئة نحو الأفضل.




المصدر