أطفال سورية يحتاجون أكثر من الدعم النفسي


هيفاء بيطار

كثرت التقارير والإحصاءات عن عدد ضحايا العنف من الأطفال السوريين، وتختلف نوعية أعراض العنف وشدتها، من طفل إلى آخر، بحسب درجة الصدمة والمتانة النفسية، ووجود أشخاص داعمين له يحوطونه بالرعاية والحب.

خلال تعاوني مع بعض الجمعيات المدنية التي تهتم بالأطفال الذين تراوح أعمارهم ما بين 9 إلى 12 سنة، وقد نزحوا من مناطق متعددة، وبخاصة من ريفي حلب وإدلب، قدّمتُ لعدد منهم الدعمَ النفسي، من خلال دراستي في كلية الطب، وقراءاتي لعدد من الكتب في هذا المجال.

اتّبعت مع الأطفال سياسة مختلفة عن المعتاد، من خلال طلبي منهم الرسم والكتابة، ومن خلالها أستطيع تقدير أبعاد معاناتهم وأوجاعهم، أردت أن أتركهم يتكلمون، لأسمع صوتهم وكيف يصوغون عباراتهم، ويعبرون عن ألمهم.

كان الكلام يشجعهم ويحفزهم على إخراج ما في أعماقهم من معاناة تفوق الوصف، كما لو أن اعتراف أحدهم بمأساته يشجع الآخر على البوح بمأساته أيضًا، ويبدو أن البوح بالأحزان يخففها، بل يخلق شيئًا من الأمل بين الأطفال والمراهقين، فأحدهم أصيب بـ “التأتأة”، وكان يشعر بالخجل والخزي، عندما يتكلم.

شرع ذلك الفتى المصاب يحدّثنا عن الصاروخ الذي نزل وسط منزلهم، في شارع علاء الدين في حلب، وكيف شطر الطاولة نصفين، ولم يستطع أن يمد يده ليتناول نظارته الطبية، لم ينهر بيتهم تمامًا، على الرغم من اختراق الصاروخ له، لكنه تسبب بانهيار منازل الجيران، فوق أجساد رفاقه. بعد تلك الحادثة، هرب الفتى (محدثنا) مع أمه إلى اللاذقية، وقال واصفًا ما حلّ بهم: “نمنا في مدخل البناية مدة شهرين، إلى أن ساعدتنا جمعية خيرية في تأمين غرفة تأوينا”.

فيما تحدث طفل آخر (10 أعوام) عن أخيه الذي يصغره بثلاثة أعوام، وقد فقد القدرة على النطق، أصابه داء الخرس، بسبب المأساة المروعة التي شهدها. وقال: “شاهد أخي جارًا لنا، يُذبح ويُفصل رأسه عن جسده، ومن يومها أصيب بالخرس”. فيما لاحظتُ على أحد المراهقين (12 عامًا) أنه دائم النوم، يسند رأسه إلى مرفقيه وإلى طاولة المقعد في الصف، ويغرق في النوم، بذلتُ جهودًا خارقة لأجعله يصحو، لكنه كان يصحو دقائق ويعود إلى النوم.

تُسمى هذا الحالات في علم النفس باضطرابات ما بعد الصدمة، معظم هؤلاء الأطفال كانوا يبصرون كوابيس أثناء نومهم، فقدوا أهلهم، ويعيشون لدى عائلات تحنو عليهم، أو في مهاجع تعطيها الدولة لأمثالهم.

هؤلاء الأطفال الذين يُعانون من اضطراب ما بعد الصدمة والتسمم الجهادي، كيف لهم أن يطالعوا في الكتب تلك الأعراض القاسية التي يتعرض لها أطفال سورية، أو أن يحضروا برامج وثائقية عن طرق الدعم النفسي لأطفال سورية النازحين.

أتساءل هنا: ما فائدة تلك الطرق العلمية الحديثة في معالجة الأطفال المصدومين من هول العنف الذي شهدوه، إن لم تتغير الظروف التي يعيشون فيها؟

ذات يوم حضرت برنامجًا وثائقيًا ممتازًا مدته تزيد عن الساعة يبيّن الوسائل والألعاب والطرق العديدة التي يستعملها الخبراء في الدعم النفسي، لأطفال مخيم الزعتري في الأردن، حيث كان الطمي والثلج القذر يفرش الممرات بين المخيمات البائسة المهترئة التي تعوم الفرشات الرقيقة المخصصة للنوم داخلها فوق الماء المتسرب إلى الخيم!.

أتساءل أيضًا: أي دعم نفسي يمكن أن يفيد هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في مخيم الزعتري، بعد أن يخطفهم المعالجون النفسانيون ساعات إلى عالم الأمان والخيال، ثم يتركونهم يعودون إلى مخيمات البؤس الفظيعة؟!

إنّ الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال صعب جدًا وشاق، ويتطلب فريقًا متكاملًا من الأخصائيين، يسلك طريقًا طويلًا للوصول إلى نتائج إيجابية. هذا الطريق الطويل هو العنوان الذي استعمله كاتب مبدع من سيراليون اسمه: إشمائيل بيه، وقد كتب رواية مذهلة وصادمة بصدقها، بعنوان (الطريق الطويل)، يحكي فيها كيف كان هو نفسه أحد ضحايا العنف، وكيف استغلّه تجار الحروب والميليشيات في أعمال القتل والعنف.

كانوا يخلطون طعامهم بالبارود المطحون وبودرة المورفين، ويجبرونهم أن يحضروا كل يوم، أفلامًا وحشية تصوّر عمليات القتل الوحشية، لأكثر من عشر ساعات، وكيف لهؤلاء الأطفال الضحايا أن يتحولوا إلى مجانين؛ فيصرخون صراخًا وحشيًا، ولا يتمكنون من النوم طوال ثلاثة أيام.

حتى أنجد الحظ الكاتبَ الذي قتل أكثر من ستين رجلًا، واستأصل حناجرهم، وهو تحت تأثير البارود المطحون والمورفين والإشباع من مشاهد العنف، أنجد هذا المراهق (إشمائيل بيه) إحدى البعثات التبشيرية من أميركا، واصطحبوه معهم إلى أميركا، حيث احتاج إلى ثلاث سنوات كاملة، كي يكف عن الصراخ الوحشي والكوابيس المرعبة.

ثلاث سنوات من العلاج النفساني الجدي خضع له طفل من سيراليون، لا تختلف معاناته كثيرًا عن معاناة أطفال سورية أو العراق أو اليمن أو ليبيا، هؤلاء الذين نسميهم ضحايا العنف، فهل يتوفر لأطفال سورية والدول العربية الملتهبة والمنكوبة دعم نفساني جدي، وبرنامج دعم نفسي كما توفر للطفل من سيراليون (إشمائيل بيه) الذي تحول فيما بعد إلى أحد أشهر كتاب أميركا، حين كتب روايته الأشبه بسيرة ذاتية (الطريق الطويل)، وأظن أنها تحولت إلى فيلم سينمائي.

أخيرًا، إن الدعم النفساني لأطفال سورية لا يكون بمجرد قضاء بعض الساعات القليلة لنطلب إليهم أن يرسموا أو يكتبوا أو يلعبوا ألعابًا عديدة، ثم يعودون إلى جحيم وبؤس خيمهم وظروفهم.

هذا لا يعدّ علاجًا نفسيًا بل مُسكنًا خُلبيًا قصير الأمد، فيما الألم الحارق الأكّال، كسرطان يأكل نسيج الروح ويقضي على الأمل ورغبة الحياة، ما يزال ينهش في أرواح بقية الأطفال.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن عددًا لا بأس به من الأطفال حاولوا الانتحار، معتقدين أنهم في الجنة سيجدون الأمان والأكل والسلام. حبذا لو تصرف تلك الأموال الطائلة في إنتاج برامج وثائقية عن الدعم النفسي لأطفال سورية، في دعمهم لتأمين شروط حياة، تليق بطفل لا ذنب له في دفع ثمن حروب الكبار القذرة.




المصدر