التمثيل السياسي والتمثيل في السياسة


منير شحود

لم يكتمل تمثيل السوريين في البنى والمؤسسات الفوقية، منذ نشأة سورية-الدولة، وتلاعبت به أجهزة النظام الاستبدادي على نحو خاص. كما كان تمثيل السوريين الثائرين ذا طابع إشكالي، منذ بداية الانتفاضة، وذلك نظرًا إلى استحالة إجراء انتخابات فعلية؛ بسبب الطابع الشعبي، والضغوط التي سببها القمع وعدم وجود الخبرة والمشورة الكافيتين. دفع هذا الواقع المعقد مجموعةً من المعارضين للنظام، وسجناء سياسيين سابقين، وهيئات معارضة، إلى ملء الفراغ وادّعاء التمثيل، علاوة على مغامرين وانتهازيين في الخارج، لا يجمع بينهم وبين الخلاص من الاستبداد جامع. وكان الدور الأكثر تنظيمًا وتأثيرًا لـ (الإخوان المسلمين) الذين عاثوا بمطالب السوريين المحقة فسادًا، ومن ورائهم بعض القوى الإقليمية، وما زالوا. لم يدركِ كلّ من مدّعي التمثيل هؤلاء مدى فداحة المآسي التي أضحوا شركاء متضامنين فيها، واستغلوها لمزيد من الادعاء والمزاودة، من أجل تحقيق مكاسب أنانية حزبية وشخصية. وفي ضوء عجز النظام المغلق عن التراجع عن خياره الأمني أو اعتماد سواه؛ اكتملت دائرة الصراع العدمي، وضاع كل تمثيل وسط قعقعة السلاح.

ثم صار الصراخ الثوري سيّدَ الموقف على الشاشات وفي اللقاءات والاجتماعات، والمحددَ الأهم لدرجة “المصداقية الثورية”؛ وبالتالي “الحق المطلق” المنبثق عنها (كم يذكّر ذلك بالنفاق السائد في أوساط الاستبداد الإعلامية!). بالتوازي مع ذلك، استمرت المواقف المتشنجة، باسم الحفاظ على ثوابت الثورة (هذه أيضًا تذكّر بمقولات الاستبداد المزمنة، حول الثوابت!) من دون وضع تعاريف “إبستمولوجية” محددة، مع الإغفال المتواصل للوقائع العنيدة التي يفترض أن يلاحظها السياسيون، وتعكسها السياسة بصورة أو بأخرى. بكلام آخر: لم تكن ثمة سياسة عملياتية، إنما انفعالات سياسية غير مجدية. هنا التقى موقف النظام الرافض لكل ما لا يتوافق وديمومته المستحيلة، مع مواقف معارضة إقليمية الهوى؛ ليشكلا حلقة مغلقة غير منتجة للسياسة؛ ما فسح المجال لملء الفراغ السياسي من قبل أطراف خارجية، كانت تجد الترحيب -وما زالت- من قِبل هذه الجهة الداخلية أو تلك، كداعمة لها. ولم تغير الوقائع المتبدلة على الأرض، على نحو ملحوظ، من طريقة التعبير عن الحدث.

في هذه الأثناء، استمر التعامل مع المبادرات العربية والأممية، من قبل النظام وهذه المعارضة، من خلال الرفض الصريح أو المبطّن، وترافق ذلك مع الهجوم المستمر على المبعوثين الأمميين المتعاقبين، بدءًا من كوفي عنان، مرورًا بالأخضر الابراهيمي، وانتهاءً بـ دي ميستورا، مع أن هؤلاء مجرد ممثلين يعكسون، في نهاية المطاف، محصلة المواقف الدولية الفاعلة في الشأن السوري. لكن، ولأن الفترة التي قضاها السيد دي ميستورا في مهمته أطول، فقد تلقى الكم الأكبر من الانتقادات، سواء من النظام أو من هذا الفريق المعارض، وذلك ردًا على تصريحاته ذات الصلة، ومنها التصريح الأخير الذي قال فيه، ما معناه، أن ليس ثمة أمل للنظام ولا المعارضة بتحقيق نصر حاسم في الحرب؛ وعليهما التحلي بالواقعية.

إن مقولة عدم تحقق الانتصار العسكري لطرف على طرف آخر كانت متداولة دوليًا، منذ عام 2012 – 2013، وليس كلام دي ميستورا سوى انعكاس لواقع الحال المستمر، منذ ذلك الحين، وهذه النتيجة هي التي كانت وراء فكرة التفاوض، وبدء “مسلسل” جنيف وأستانا من بعده. لم ترِ المعارضة الكثير من هذه الوقائع والتحولات، ولم يكن لديها إحساس كافٍ بالمسؤولية، عما حدث منذ ذلك الحين، وذلك نظرًا إلى إشكالية التمثيل وعدم وجود آليات للمراجعة والمحاسبة. على سبيل المثال، أيدت هذه المعارضة -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- من خلال داعميها الإقليميين، فصائلَ جهادية مسلحة (النصرة وتوابعها) في معظم المناطق، في الوقت الذي رفضت فيه التنسيق مع “قوات سورية الديمقراطية” التي أضحت قوة مهمة، في مجرى الصراع الدائر، وليس من المعقول تجاوزها، بعد أن لعبت دورًا حاسمًا في محاربة (داعش) في شمال شرق سورية، بدعم أميركي مباشر. كان من نتائج ذلك أن رفعت الولايات المتحدة الدعم عن المعارضة -على محدوديته- وتخلّت عنها عبر خطوات متعاقبة.

لقد انتهى المطاف بمعارضة أقصَت كل من عارضها إلى نسختها المتقلصة الأخيرة المتمثلة بالهيئة العليا للمفاوضات، وهي الآن مجبرة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، في جانب واحد، مع منصتين مستحدثتين أخريين، هما منصتا موسكو والقاهرة، اللتان تمت شرعنة وجودهما بالقرار الأممي رقم 2245. وهكذا صار سيناريو المشهد التمثيلي الذي تحتاجه الدول المعنية، لتفرض الحل الذي يناسبها في سورية، جاهزًا، وذلك استنادًا إلى جملة المتغيرات العسكرية التي حققها الروسُ والأميركيون على الأرض، على نحو مباشر أو عن طريق دعم القوى الحليفة لهما، علاوة على الجهود السياسية الروسية التي نجم عنها عقد اتفاقات خفض التصعيد، في مناطق عدة من سورية.

ما وصلنا إليه الآن يعدّ تحصيل حاصل، ونتيجة موضوعية لمتغيرات كثيرة حصلت، بخاصة بعد التدخل الروسي المباشر، في بداية شهر أيلول/ سبتمبر 2015. وبهذا الخصوص، لا تنفع بيانات الإدانة والشتائم، وربما من الأجدى بنا، العمل على تحقيق أقصى ما يمكن من مطالب التغيير الديمقراطي عبر المفاوضات، وأن يتوافق ذلك مع ما ضحى الكثيرون بأرواحهم من أجله، وأن يكون في سياق عملية التنوير التاريخية المفوِّتة في بلداننا، منذ أوائل القرن الماضي، بعيدًا عن كل جهة استبدادية وظلامية. كما لا يضير الاعتراف -ولو على نحوٍ متأخّر- بأننا لم نكن على مستوى قضيتنا السورية العادلة، وأن الوصاية الدولية، كواقع يتعزز يوميًا، هي الأنسب حاليًا، لتخطي هذا الاستعصاء التاريخي الكبير، فلا يكابرنّ أحد!

إن من يجب أن يُلام أولًا هو تلك المعارضة التي وضعت كل أوراقها في سلة القوى الإقليمية والدولية، والتي لم تمارس سياسة مستقلة، منذ نشأة نواتها الأولى -المجلس الوطني- خريف عام 2011، وتتعرض الآن لضغوط كبيرة، لا تمتلك في مواجهتها سوى خيارات محدودة، بخاصة بعد تصدع الحلف الإقليمي الداعم لها، وعليها مواجهة الحقيقة التي عبر عنها دي ميستورا بالفعل، والقبول بالمشاركة والتفاوض في الظروف الحالية.




المصدر