انشقاقات “النصرة” وتصفيات كوادرها: حلّ لإدلب بدل التدخل العسكري؟




لم يكن إعلان عضوي اللجنة الشرعية في تنظيم “هيئة تحرير الشام” (تحالف تقوده النصرة)، السعوديين عبد الله المحيسني، والداعية مصلح العلياني، عن استقالتهما من “الهيئة” قبل أيام بالأمر المستغرب، بعد الخلاف الذي نشب بين الهيئة و”حركة أحرار الشام” بداية شهر يوليو/ تموز الماضي، وسط ترقب لما ستؤول إليه الأوضاع داخل “الهيئة” وما إذا كانت ستشهد تفككاً من داخلها بعد انشقاق العشرات خلال اليومين الماضيين، فضلاً عن تسجيل أول عملية اغتيال في صفوفها عقب الأزمة الأخيرة لقيادي سعودي فيها يدعى أبو محمد الحجازي. كما تتجه الأنظار لمعرفة مدى استفادة حركة أحرار الشام من تشظي “الهيئة”، لا سيما أن أغلب المنشقين يختارون الالتحاق بصفوفها،

وذلك في توقيت سياسي وعسكري حساس، في ظل بحث القوى الدولية والعالمية المعنية بالملف السوري، عن حلّ لمحافظة إدلب التي يراد ضمها إلى مناطق خفض التصعيد، وهو الموضوع الرئيسي لاجتماعات أستانة المقررة اليوم الخميس، مع تفادي التسبب بمجزرة حقيقية نتيجة إقامة ملايين السوريين من مختلف أنحاء البلد في هذه المدينة وأريافها. وقد جاهرت كل من السلطات التركية خصوصاً، المعنية الرئيسية بمنطقة إدلب الحدودية، بأنها في طور البحث عن حلول بديلة للتدخل العسكري، وهو ما شدد عليه الائتلاف الوطني السوري والهيئة العليا للمفاوضات. من هنا، يعتبر كثيرون أن ما يحصل داخل “النصرة” حالياً، تحديداً في إدلب، من انشقاقات وتصفيات، ربما يكون مدروساً من ضمن مخطط لإضعاف التنظيم وضربه من الداخل في إطار ترتيبات تبطل قوته العسكرية وترغمه إما على حل نفسه أو على تقسيمه إلى مجموعات صغيرة مستقلة يسهل التحكم فيها، أو إلى مندمجين في فصائل غير تكفيرية، خصوصاً حركة أحرار الشام.

وكان الخلاف بين الفصيلين قد أفرز تيارين داخل الهيئة: الأول يتزعمه أبو محمد الجولاني، القائد العسكري للهيئة وأمير فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، والذي كان يدعو لقتال الحركة، فيما يتزعم التيار الثاني عضو اللجنة الشرعية في الهيئة عبد الله المحيسني، والذي كان ضد قتال “الهيئة” لعناصر حركة أحرار الشام. وقد سبقت قيام “الهيئة” بمهاجمة مواقع لحركة أحرار الشام في ثاني أيام عيد الفطر حملة شيطنة لحركة أحرار الشام بسبب الإجراءات التي اتخذتها الحركة وقربها من تبني أهداف الثورة السورية ورفعها لعلم الثورة على مقراتها، وتحولها من مشروع سلفي جهادي إلى مشروع وطني. وقد اعتبرت هيئة تحرير الشام هذا الأمر خروجاً عن منهج الجهادية السلفية، ما خلق شرخاً داخل الهيئة حول طريقة مواجهة هذا التحول بين المواجهة السياسية والمواجهة العسكرية، والذي حسمه القائد العسكري للهيئة والمتحكم في قرارها أبو محمد الجولاني بالمواجهة العسكرية، كونه يعتمد على مبدأ أن الأقوى عسكرياً هو من يتحكم بكل مفاتيح الحلول على الأرض.

وأعلن المحيسني والعلياني انشقاقهما عن “الهيئة”، وفقَ بيانٍ نشراه عبر موقع التواصل الاجتماعي يوم الاثنين 11 سبتمبر/ أيلول. وأرجعا قرارهما إلى “الفشل في تحقيق غايتهما من الوجود في الهيئة، وتجاوز الهيئة في القتال الأخير”، في إشارة إلى القتال الذي شهدته محافظة إدلب بين فصيلي “هيئة تحرير الشام”، و”حركة أحرار الشام”. وجاءت الاستقالة بعد فترةٍ وجيزة من تسريب تسجيل صوتي لمحادثة بين شخص اسمه “النايف”، ويعتقد أنه القائد العسكري للهيئة أبو محمد الجولاني، وبين قائد قطاع إدلب، المغيرة بن الوليد، المعروف باسم “أبو حمزة بنش”، وصفا فيه كلّاً من المحيسني والعلياني بـ”المرقعين”، وأن عملهما الشرعي مقتصر على “الترقيع” فقط. وطلب “أبو حمزة بنش”، خلال التسجيل، من الجولاني أن يتم السماح له باعتقال المحيسني بذريعة أنه سيحرّض عناصر “الهيئة” على عدم قتال حركة “أحرار الشام”. إلا أن الجولاني لم يوافق وقال إن “اعتقاله سيزيد الأمر تعقيداً”.
وانتشر تسجيل آخر لحوار بين أبو حمزة بنش ذاته و”أبو حسين الأردني”، الذي يشغل منصب “قائد الجيش المركزي” في “هيئة تحرير الشام”، يكشف اتفاقهما على شنّ هجوم على “حركة أحرار الشام” بموافقة كاملة من الجولاني، مع تكرار “بنش” القول إنه ينوي اعتقال المحيسني بهدف منعه من التوسط لاحقاً لفرض هدنة مع “الأحرار”.

انشقاق المحيسني والعلياني لم يكن الأول من نوعه في صفوف الهيئة، فقبل هذا الانشقاق شهدت صفوف “هيئة تحرير الشام” سلسلة انشقاقات من عناصر وقادة عسكريين وكيانات عسكرية كاملة. وكان سبب معظم هذه الانشقاقات “البغي” الذي تقوم به الهيئة ضد فصيل “حركة أحرار الشام”. إلا أن انشقاق المحيسني، الذي يحظى بشعبية كبيرة في صفوف المقاتلين الذين يتبنون فكر الجهادية السلفية، قد يؤدي إلى مزيد من الانشقاقات داخل صفوف الهيئة التي تعاني حالياً من ضغوط شعبية متزايدة، كون المدنيين في محافظة إدلب يعدّون الهيئة هي المتسبب بأي ضربة عسكرية قد توجّه إلى محافظة إدلب. وقد بدأت تظهر أولى مؤشرات ذلك بعدما ذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، يوم الثلاثاء، أن قرابة مائة عنصر من تنظيم “هيئة تحرير الشام” انشقوا بسلاحهم وفروا إلى مناطق سيطرة “حركة أحرار الشام” في جبل شحشبو بريف حماة الغربي.

وفي شهر مارس/ آذار الماضي، عندما بدأ الخلاف الفعلي بين الحركة والهيئة، أقدم عدّة قياديين في “هيئة تحرير الشام” على الانشقاق عن الهيئة والانضمام للحركة. وقرّرت مجموعات وكتائب وشخصيات داخل “هيئة تحرير الشام” حينها ترك موقعها في الهيئة والعودة إلى صفوف الحركة، منهم كتيبة المدفعية والهاون، ومحمد أبو الدرداء، من كوادر جبهة النصرة القدامى، ومجلس شورى عشائر المَوالي الموحد، وسرية أنصار الشريعة العاملة في سهل الغاب قطاع حماة، وأبو البراء طعوم، قائد لواء أجناد الشام الذي انشق مع لوائه، وكتيبة حذيفة بن اليمان العاملة في منطقة دارة عزة، وكتيبة محمد أسعد بدر في سراقب، وكتيبة أحرار إسقاط – قطاع الحدود.

وفي خضم تلك الخلافات أيضاً، قرّر قياديون وفصائل بتبعون للهيئة، الانشقاق عنها، ولكنهم لم ينضمّوا إلى “حركة أحرار الشام” حينها وإنما بقوا مستقلين من دون أي تبعية لأحد، ومنهم “كتائب أبو عمارة” التي كانت قد بايعت “هيئة تحرير الشام” قبل أشهر من هذه الحوادث، لكنها أعلنت بعد انشقاقها عودتها لاسمها الأساسي “سرية أبو عمارة للمهام الخاصة”، موضحةً أنّها لم تعد تتبع لأي فصيل. ويُضاف إليها انشقاق “زيد العطار”، الذي كان يشغل دور مسؤول إدارة الشؤون السياسية في “هيئة تحرير الشام” لكنه أعلن أنه لم يعد مسؤولاً عن هذا الدور، وأنه استقال بشكلٍ كامل من الهيئة.

وبعد شهرين، تحديداً في التاسع عشر من شهر مايو/ أيار الماضي، أعلن محمد علوش (أبو سامي)، وهو القائد العسكري لفصيل “جند الملاحم”، التابع لـ”هيئة تحرير الشام”، انشقاقه عن “الهيئة”، لينضم إلى حركة أحرار الشام. وأرجع “أبو سامي” انشقاقه إلى “التطورات التي تجري في الساحة، وضرورة توحيد الصفوف وجمع الكلمة، وتحقيقاً لمرضاة الله تعالى ورسوله”، مُعلناً أنه انضم إلى “حركة أحرار الشام”، في كتيبة “الشيخ أبو عمر” تحديداً.
الانشقاق الأكبر الذي “قصم ظهر” هيئة تحرير الشام، هو انشقاق فصيل “حركة نور الدين الزنكي” عنها، ففي الـ20 من شهر يوليو/ تموز الماضي، أصدرت حركة نور الدين الزنكي بيان انفصالها عن الهيئة بعد أن كانت قد اندمجت معها مطلع عام 2017. وعلّلت حركة الزنكي الانشقاق، في بيانٍ لها، بأن الهيئة “تجاوزت مجلس الشورى وأخذت قرارها باقتتال أحرار الشام، علماً أن تشكيل الهيئة بني على أساس عدم البغي على الفصائل”. وأضاف بيان الزنكي أن هناك أسباباً أخرى، ومنها “عدم تحكيم الشريعة، وتمثل ذلك في تجاوز لجنة الفتوى في الهيئة وإصدار بيان عن المجلس العسكري من دون علم أغلب أعضائه، وعدم القبول بالمبادرة التي أطلقها العلماء، التي كانت تسعى لوقف القتال بين الهيئة والحركة حينها”.

وتعود الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها “هيئة تحرير الشام” من هذا الانشقاق، إلى القوة العسكرية والبشرية التي تتمتّع بها “الزنكي”.

وفي شهر تموز/ يوليو الفائت، الذي شهد تحوّل الخلاف بين “هيئة تحرير الشام” و”حركة أحرار الشام” من حرب كلامية وبيانات إلى معارك مباشرة، أعلنت عدة كتائب في “هيئة تحرير الشام” انشقاقها، مرجعةً السبب إلى “التجاوزات التي ارتكبتها الهيئة بحق حركة أحرار الشام، وانحراف البوصلة”، وفقاً لبيان رسمي نشره فصيلا “كتيبة المدفعية في ريف حلب الجنوبي، وسرية سهام الصالحين في سراقب بريف إدلب”. وبررا قرارهما بـ”البغي الحاصل من الهيئة على أحرار الشام، خصوصاً في نقاط الرباط بريف حلب الجنوبي، إضافة إلى نهب أموالهم الخاصة وانتهاك حرمات منازلهم”. وأوضحت سرية سهام الصالحين أنها تركت الهيئة واعتزلت العمل بسبب “الفتنة وتحوّل فوهات البنادق من صدور الأعداء إلى صدور الإخوة”، حسب البيان، الذي أوضح أن عناصر “سهام الصالحين”، “سوف يعتزلون الفتنة حتى تُكشف الغمة”.




المصدر