الواقعية السياسية والثورة
15 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
هشام أسكيف
احتدم الحديث عن الواقعية السياسة في الآونة الأخيرة، وأصبح الجميع يتحلّى بها، وكلٌ يتباهى ويقول: عليكم الاعتراف بأنكم خسرتم الحرب، وبأن النظام استرد عافيته عسكريًا.
للأسف، هذه الواقعية لم تنطلق من النبع الصافي للثورة، بل انطلقت من وحل السياسة القذر. فمتى كان للثوار موطئ قدم حتى يُقيّم النجاح والانتصار على أساسه! وهل كان النظام منتصرًا، عندما اشتعلت الثورة وملأت الساحات بالمتظاهرين والمحتجين على حكم آل الأسد! هل كان آنذاك من يُردّد: “تحلّو بالواقعية”، و”أنتم ضعفاء وهو قوي”، و”خذوا ما أعطاكم إياه من إصلاحات شكلية”؟ عمليًا، هذه هي الواقعية السياسة التي أرادوا -من اللحظة الأولى للثورة- أن يتحلى بها السوريون.
يقولون للسوريين: من أنتم، حتى تُصارعوا هذا النظام؟ ولكن السوريين صارعوا النظام وكسروا أركانه، وببضع أسلحة خفيفة حرروا الأرض، وحطّموا صورة النظام مرة واحدة، وإلى الأبد. نحن الآن أمام الحقائق الواقعية التي لم يتحدث عنها أحد، لقد خسر النظام معركته ضد الشعب وانكسر، وبدا التدخل الروسي بكل صلفه وجبروته، وأعلن أن العملية لن تستغرق سوى ثلاثة أشهر، وينتهي الأمر، ومضى عامان ولم ينته الأمر. وهل ينسى السوريون سخرية المسؤولين الروس والمحللين الروس من الجيش الحر، عندما بدؤوا تدخلهم؟ وقولهم إن الجيش الحر هو كيان وهمي، ولا يوجد سوى (داعش) و(النصرة)؟ واليوم يوقّع الروس اتفاقات معه.
من الذي لم يتحلّ بالواقعية السياسية؟ أهم الثوار الذين كسروا النظامَ و”حزب الله” وإيران، حتى أتت قوة عظمى بكل سلاحها المتغطرس والمُدمّر والشامل، وأعلن توقيتًا لسحق إرادة الشعب السوري، واضطر مرغمًا إلى أن يعترف بأن هناك ثورة وثوارًا ومعارضة؟
من الذي لم يتحل بالواقعية السياسية؟ أهم الثوار الذين -على علّاتهم- يفرزون قوى ومؤسسات، تُمثّل تجربتهم الغضّة التي عمرها خمس سنوات أو ست؟ أم الروس الذين يأتون بمعارضة مُسبقة الصنع، لمعارضة المعارضة، وليس لمعارضة النظام؟
من الذي لم يتحلّ بالواقعية السياسة؟ أهم أولئك الذين لم يستطيعوا تحقيق أي نصر، بعد سنتين، إلا بطريقة الأرض المحروقة، وإبادة كل شيء؟
نعم الواقعية التي يجب أن يتحلى بها السوريون هي أن النظام ذهب إلى غير رجعة، وأنهم أمام احتلال روسي، بطريقة واضحة لا تخفى على أحد، وأن إيران تُكابد الأمرّين للحصول على أدنى مكسب لها ضمن صفقة الكبار، وأن النظام يجلس في المقاعد الخلفية، ويُحاول إقناع زبائنه بأنه المُنتَج الأول في السوق، مع أنه مُنتَج منتهي الصلاحية.
الواقعية السياسة هي أن الحرب على الشعب السوري لم تنتج إلا مجتمعًا سوريًا كارهًا للأسد ولنظامه، مهما بالغ الإعلام بتصوير حفنةٍ، لا تُشكّل نقطة في بحر الشعب السوري، يعودون إلى عبوديتهم، والواقعية السياسية أن تُقرأ الأحداث وفق مجريات الواقع، فالنظام لم يُوقّع أي اتفاق مع (الثوار) للتهدئة، بل الروس.
الواقعية التي يجب على الجميع الاعتراف بها هي أن الروس في مأزق سياسي أشد من مأزق الأمريكيين، عند دخولهم إلى العراق وإعلان نصرهم العسكري، ولم يستطيعوا تحويل هذا النصر إلى صيغ سياسية تضمن ديمومة الاستقرار، يسعى الروس الآن جاهدين ليقولوا للجميع إنهم مختلفون عن الولايات المتحدة، وإنهم صانعوا الحرب والسلام، لكنهم سيفشلون.
ليست الواقعية السياسة ببقاء بشار الكيماوي من عدمه، وإنما بقبول الشعب بهذا البقاء الإجرامي الذي يعرف الروس أنهم، في لحظةٍ ما ستأتي، سيجيبون على الأسئلة المُحرجة: وماذا بعد؟ وماذا بشأن بشار الكيماوي؟
ستأتي لحظة الحقيقة، وسيدرك الروس الواقعيةَ السياسية الحقيقية، وسيعرفون أن هناك ثمنًا يجب دفعه، كما حصل في تجربتهم في أفغانستان وكوسوفو، عندما تحوّل الصراع إلى صراع وجود، وأصبحوا أمام عدو يظهر لهم من تحت جلدهم، ومن بين أفكارهم، ومن كل مكان يتوقعونه، ولا يتوقعونه، عندها سيدركون أن الواقعية السياسية التي دعوا إليها محض خواء.
[sociallocker] [/sociallocker]