تدمير التراث الإنساني وجريمة الحرب


سلام الكواكبي

أتت ثورة “الحرية والأخوة والمساواة” التي قامت في فرنسا سنة 1798 -بغوغائها أو بنخبها- على كثيرٍ من أوابد التراث الانساني الفرنسي، لأسباب تُنسب إلى الجهل حينًا، ولكنها أيضًا كانت ذات حمولة عقائدية أحيانًا. فقد كانت الكنائس تعدّ رموزًا للتخلف وللاستبداد الذي ربط بين رجال الدين والسلطة الملكية. كما شكلت القصور والقلاع رموزًا للإقطاع ولظلم أصحاب الثروات. إلا أن الحضارة الإنسانية تطورت وصار الاهتمام بالتراث الإنساني يُحاول أن يُخرجه من حلبات الصراعات العقائدية، وإن بصعوبة. وكان أشهر من ندّدَ، بعد حين، بالخراب الحاصل في النسيج الحضاري للبلاد، الكاتب فيكتور هوغو (1802 – 1885)، حيث اعتبر بجلاء أن “لكل موقع تراثي بُعدَين: الأول يخص استعماله، والثاني يخص جماليته؛ فاستعماله، يعود لأصحابه، أما جماله فهو ملك للجميع، لكم، لي، لنا جميعًا. إذًا، تدميره، هو تجاوز للحق”.

منذ فترة وجيزة، جرت أمام المحكمة الجنائية الدولية محاكمة أحد مجرمي العصابات الإرهابية في مالي، واسمه (أحمد الفقي المهدي)، بتهمة تدمير جزء من التراث الإنساني. وكان هذا المدعو الذي تبوء مركزًا مسؤولًا في عصابات “أنصار الدين” المقربة من القاعدة، قد قاد شخصيًا في نيسان/ أبريل 2012 عمليةَ تدمير تسعة أضرحة في مدينة تومبكتو، كما مسجد “سيدي يحيى” الأثري في المدينة عينها. وقد سعى في مرحلة لاحقة لتدمير 100 ألف مخطوط إسلامي، قبل أن تدحر القواتُ الفرنسية قواتِه سنة 2013. وقد كانت المدينة من أهم مراكز تدريس العلوم الدينية في الفترة، من القرن الثالث عشر وحتى القرن السابع عشر.

عدّت المحكمة ما اقترفته هذه العصابات جريمةَ حرب، وأنّ هذا المتهم مجرم حرب، وأدانَته وحكمت عليه بالسجن، كما فرضت عليه تعويضات مالية مرتفعة، لإعادة بناء الأضرحة، لن يقوم بالتأكيد بسدادها، إلا أن صندوقًا دوليًا للتعويضات سيصرفها على مشروع إعادة البناء. وتُعدّ هذه القضية الأولى التي يُحاكَم فيها إرهابي بتهمة تدمير آثار، كما أنها الأولى التي تُصنِّف هذا العمل في بند جرائم الحرب. ومن المؤكد بأنها ستُحدِثُ تطورًا فقهيًا في تعريف هذا النوع من الجرائم التي تقترفها عصابات أو مجموعات أو حكومات، أثناء النزاعات المسلحة.

من خلال التوقف عند هذه المحاكمة، يمكن أن يشعر ضحايا الانتهاكات وأقرباء ضحايا المجازر الجماعية والتطهير العرقي والتعذيب المنهجي والاختفاء القسري، بشيء من السخرية السوداء، حيث تهتم المحاكم الدولية بمن يُدمّر الحجر وتتناسى من يقتل البشر. إلا أن النظرة الموضوعية إلى مثل هذه الجرائم يجب أن تجعل العدالةَ الدولية شاملةً، ترد في جنباتها جميع أنواع القتل والتدمير، على مختلف صنوفها وتدرجاتها. فتدمير التراث الإنساني -مهما يكن- يظلّ موضع إدانة، ويقع في نطاق اختصاصات المحاكم الجنائية، وخصوصًا الدولية منها أو الخاصة. وتدمير تراث شعب أو ديانة يندرج في إطار مشروعٍ إجرامي لإرهابيين غير نظاميين (مجموعات)، أو نظاميين (أنظمة).

هذا “المهدي” كان “شرعيًا” ومسؤولًا عن شرطة الأخلاق، أثناء سيطرة الإرهابيين على المدينة بدءًا من نيسان/ أبريل 2012 وحتى كانون الثاني/ يناير 2013. وقد اعترف بكل ما نُسب إليه وطلبَ الغفران. ولكن بدا بجلاء أن القضاة في المحكمة كانوا أعلم منه بدينه، حيث شددوا على أنه لا توجد آية في القرآن الكريم تأمر بتدمير المواقع الدينية.

من خلال هذا الحكم، يُقرّ القانون الدولي صراحةً بأن التدمير الإرادي والمُثبت لهوية مجموعة بشرية، تشهد لتاريخه ولحضارته، يُعدّ عملًا إجراميًا شديد الخطورة. وهذه كانت رسالة واضحة لكل مدمري الآثار والأماكن الدينية من مجموعات إرهابية أو حكومات مختلفة على وجه الأرض.

بالمقابل، تنتظر الشخصيات والمنظمات العاملة في مجال المحافظة على الآثار وحماية التراث الإنساني، أنْ يلتفت القانون الدولي إلى الجرائم العديدة المرتكبة من قبل عصابات غير نظامية (مجموعات مسلحة) وعصابات نظامية (سلطات مستبدة)، بحق التراث الإنساني في عديد من البلدان، خارج إطار الحروب والنزاعات المسلحة. فكثير من الدول العربية خصوصًا دُمِّرَ تراثها الإنساني أو جزء منه، بحجج مختلفة، منها المحافظة على الأمن أو تجميل المدن أو إنشاء بنى تحتية تُحاكي التطور. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمّ في ثمانينيات القرن المنصرم تدميرُ معبدٍ حثّيِ في قلب قلعة حلب، لبناء مدرج إسمنتي كريه الشكل والاستعمال. وجرى جرف لأجزاء كبيرة من أسوارها ومن أقدم أحيائها في الحقبة نفسها، سعيًا لبناء مراكز تجارية وإدارية أشبه بطفيليات المستنقعات الآسنة.

إلى جانب التدمير الناجم عن الجهل، تطور التنقيب التدميري المنظّم؛ لسرقة ما يمكن من المواقع الأثرية، كما لتغيير الذاكرة الجمعية، وهذا مبعثٌ عقائدي متجذّر لدى كل السلطات التي استبدت بشعوبها لتغيير تاريخها، ليس فقط المحكي بل أيضًا المُشيّد. وأخيرًا، أضافت المجموعات المسلحة مساهمتها في تدمير التراث الإنساني، إما بحجج دينية أو لتمويل آلة الدمار التي ناسبت الكثيرين من جهات متعددة ومتناقضة.

القانون الدولي -بتسجيله سابقة إدانة “المهدي”- وضَع حجر الأساس لمتابعات سيطول انتظار ثمارها، ولكنها ستصل يومًا إلى كل مجرمي تدمير التراث الإنساني، من حكومات وعصابات ومجموعات وأفراد.




المصدر