صقر الصحافة السورية


جيرون

تضيء الصحافية السورية سعاد جروس، في كتابها التوثيقي المهم (من الانتداب إلى الانقلاب)، على مرحلة مهمة من تاريخ سورية الحديث، تمتد من عشرينيات القرن الماضي، حتى خمسينياته، وذلك من خلال سرد تجربة الصحافي والوطني البارز نجيب الريّس (1898- 1952)، وسيرته الذاتية الحافلة بالنضال الوطني، والعمل الصحفي، الانتقادي الحر، الذي يكثّف سيرة وطن.

لا تهدف هذه المقاربة إلى عرض محتويات الكتاب، بل الإشارة إلى أهم المشتركات التي لفتت نظري، بين تلك المرحلة، والراهن الذي نعيش. إذ من المدهش أن العديد من القضايا والأزمات، والأخطاء التي انتقدها الريّس في ذلك الحين بحدّة، ما برحت هي ذاتها تتكرر في زمننا الراهن، ولو بأشكال أكثر تعقيدًا، لكن دعونا قبل الشروع في ذكر تلك المشتركات، أن نستعرض ملامح من السيرة الذاتية لهذه الشخصية المثيرة للجدل.

ملامح من سيرته الذاتية:

وُلد نجيب الريس في مدينة حماة عام 1898. انتقل إلى حمص وهو في الثامنة عشر، حيث أكمل تعليمه على يد أساتذة اللغة والأدب العربي. قدم إلى دمشق محملًا بالأحلام، في أجواء مشبعة بالتفاؤل، بعد دخول الجيش العربي عام 1918، بقيادة الأمير فيصل. اهتمامه بالأدب، ونظم الشعر في بداياته، أهّله إلى ولوج عالم الصحافة في دمشق. عمل في جريدة (المقتبس) التي أصدرها العلّامة محمد كرد علي، وشقيقه أحمد كرد علي، فيما بعد أصدر بنفسه جريدة (القبس)، وأصبح صاحبها ورئيس تحريرها، والصحافي الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي آنذاك، وكاتب أقوى الافتتاحيات في عصره. تميزت مقالاته بالجرأة والوضوح، بكلمات مؤثرة، مختومة في بيت من الشعر يكثّف الرسالة التي يريد توصيلها.

كانت فاجعة ميسلون، ورمزية يوسف العظمة، نقطة انطلاق مسيرته النضالية في ميدان الصحافة السياسية، حيث التحق بحزب الشعب، وتوّج بداياته بالاعتقال مع عبد الرحمن الشهبندر، ولفيف من الوطنيين السوريين، المناهضين للانتداب الفرنسي، الذين ساقتهم سلطة الانتداب إلى سجن قلعة أرواد. كتب الريس في مهجع السجن المعتم البارد قصيدتَه الشهيرة:

يا ظلام السجن خيّم          إننا نهوى الظلاما.

وغدت تلك القصيدة على كلّ لسان، بعد أن لحنها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي ربطته علاقة صداقة مع الريس.

دفع الريس ثمنًا باهظًا، بسبب جرأته ومواقفه الوطنية: اعتقالًا وتعطيلًا لجريدته التي أمست سجلًا للحركة الوطنية، وديوانًا للنهضة القومية، إذ بلغ مجموع سنوات اعتقاله ثماني سنوات، خلال الفترة ما بين 1920-1943. انتخبه أبناء دمشق عام 1943 نائبًا عنهم على قائمة الرئيس شكري القوتلي، لمدة أربع سنوات. اشتهر في البرلمان بوصفه خطيبًا مفوّهًا، جريئًا في الدفاع عن قضايا البلاد، ومصالح الشعب. لم يرشح نفسه للنيابة مرة أخرى، وتفرّغ للعمل الصحفي في جريدته. يكتب، ويطالب بالمحافظة على الاستقلال وصيانته.

المشتركات بين الماضي والراهن:

دافع الريس بحزم عن مسألة الحرية، والاستقلال، وكرامة الإنسان، التي تندرج في سياقها: حرية الصحافة والتعبير والمعتقد، وتشكيل الأحزاب والجمعيات، وتداول السلطة سلميًا، وترسيخ سلطة القانون واستقلالية القضاء، وتطوير التعليم والمعارف والثقافة، ودافع عن إقرار دستور ناظم لحياة المجتمع، بتوافق الإرادة الحرّة لأفراده. أليست تلك القيم ما تزال حلمًا يكافح من أجله السوريون؟! انتقد الريس بشدّة الانتهازيةَ السياسية لبعض النخب والأحزاب السياسية التي كانت تغلّب المصالح الفئوية والشخصية الضيقة على مصالح الوطن العليا؛ الأمر الذي أدى إلى انتكاسات وهزائم متتالية. من الأمثلة في هذا السياق: انتقاده اللاذع لسياسات حكومة الشيخ تاج الدين الحسني، وحزب الإصلاح برئاسة حقي العظم، وانتقد الملكيين بزعامة رضا باشا الركابي، وهاجم بأشد العبارات رئيس الشرطة بهيج الخطيب، الذي أمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين بدمشق، باعتبارها سابقة خطيرة، وهناك أمثلة أخرى لا يتسع المجال لذكرها. أليست الانتهازية السياسية مرضًا، ما برح يقضُ مضاجعنا؟! خاض الريس معارك سياسية، من خلال افتتاحياته النارية في جريدة القبس، من أجل تحقيق الاستقلال الوطني، وفضح مناورات سلطة الانتداب، والحكومات المحلية الموالية لها، وكان يحذر باستمرار من خطورة المراهنة على الوعود الخارجية للدول الاستعمارية “التي تطلق في العلن الوعود، وتعمل في الخفاء على شيء آخر”. انتقد عدم قدرة النخب السياسية على الموازنة الدقيقة بين الاستراتيجية والتكتيك المناسب، بسبب الجهل في السياسات، أو الغلو، سواء لجهة الرفض أو القبول للحلول المطروحة. تنبّه الريس -باكرًا- إلى خصوصية الموقع الجيوسياسي لسورية، وتأثيره على التجاذبات السياسية الداخلية والخارجية، الذي أفضى إلى تقسيم سورية الطبيعية إلى عدة كيانات، وسلخ لواء إسكندرون. كتب عشرات المقالات عن قضية اللواء ومؤامرة سلخه عن سورية، وتوقّع بنفاذ بصيرته ما ستؤول إليه فلسطين، من خلال مقالاته التي دافع فيها عنها بضراوة ما بين 1921-1951. حيث ضاعت برأيه: “بسبب الغلو والعاطفة وإرضاء الغوغاء. هي التي كانت تسيطر على معظم الزعماء والرؤساء والوزراء والنواب والكتّاب العرب، حتى غدوا محاصرين مطوقين، بلا أصدقاء ولا حلفاء”. أليست تلك المخاطر ما زالت ماثلة حتى اليوم؟! استوعب الريس -في مرحلة مبكرة- مسألةَ تنوّع الهويات الدينية والمذهبية والإثنية، التي تشكّل خصوصية في سورية، وضرورة صهرها في إطار الهوية الوطنية، كي لا تبقي مسألة “الأقليات” ورقة تلعب بها أو عليها القوى الخارجية، لإضعاف الحكم الوطني، وزعزعة الاستقرار، ودعم الحركات الانفصالية. انتقد سيطرة المدن الكبرى، والنخب السياسية فيها (دمشق، حمص، حماة، حلب)، وتهميش الأطراف المهمشة أساسًا، وطالب بتنمية تلك الأطراف، ودمجها بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، حتى لا تصبح بيئة ملائمة للتطرف، وعدم الاستقرار. حينما احتدمت التجاذبات حول اختيار شكل الحكم (ملكي أم جمهوري) حسم رأيه إلى جانب شكري القوتلي، والكتلة الوطنية، باتجاه اختيار النظام الجمهوري، الذي كان يحتاج إلى تعزيز بناء مؤسسات الدولة، ودعمها بالقوانين، والدستور، والحياة النيابية، وحرية الصحافة والتعبير، والتعليم، والتنمية الزراعية والصناعية، وبناء جيش وطني. حمل الريس بشدّة على جمعية الغراء، وزعيمها الشيخ كامل القصاب، التي اتخذت من جامع (دنكز) بدمشق مقرًا لها، منتقدًا توظيف الدين في السياسة، وطالب بإنقاذ مستقبل البلاد من الدعوات لحكم ديني متعصب ومتخلف. السؤال: أين وصلنا مع الإسلام السياسي اليوم؟! كان من أجرأ الأصوات التي وقفت ضد الانقلابات العسكرية التي فتح لها الباب انقلاب حسني الزعيم، محذرًا من مخاطر مصادرة الحريات، والحياة السياسية والنيابية، وإجهاض الديمقراطية، وعرقلة بناء مؤسسات الدولة، وعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بطبيعة الحال ما زالت سورية تعاني من الآثار السلبية لقطع السيرورة الطبيعية لتطور المجتمع السوري، بسبب الانقلابات العسكرية، ومصادرة الديمقراطية الوليدة.

بالتأكيد لم يكن نجيب الريس وحده، في مواجهة أعداء الداخل والخارج، بل كان إلى جانبه عدد كبير من رموز الوطنية السورية، على رأسهم الرئيس شكري القوتلي، وأعضاء الكتلة الوطنية التي انبعث من رمادها بعد أن تفكك الحزب الوطني في 29 أذار/ مارس 1947. لكن –من دون شك– اجتمعت في الريس مجموعة من الصفات التي جعلت منه شخصية مؤثرة، وفاعلة في معظم أحداث عصره، بوصفه صحافيًا لامعًا، ونائبًا في البرلمان، ومناضلًا وطنيًا نزيهًا.




المصدر