من ثقافة الموت إلى ثقافة اللاعنف


مالك ونوس

قد يكون كلام شخصٍ سوريٍّ عن ثقافة اللاعنف، والحربُ في بلاده ما تزال مشتعلة، ونيرانُها تُذكي ثقافةَ الموت وتمجيده وقودًا، ضربًا من ضروب الانفصال عن الواقع، أو رفاهيةَ تفكيرٍ حلّ بدماغ مغتربٍ، باعدته المسافات عن تبعاتها. لكن لا بدّ من حينٍ تُطرح فيه الأفكار حول ثقافة اللاعنف، وضرورة إحلالها في أي مجتمع، خصوصًا ذاك الذي يعاني الحرب ومآسيها، ويطمح الشعب فيه، ويتوق، إلى زمنٍ لا تعود مسبِّبات أي حرب للظهور مرة أخرى، مهما صغرت أو قللنا من شأن تلك المسببات أو أهملنا أحدها. كما أنه كلما جرى العمل لدنو ذلك الحين؛ كان الفعل أكثر تأثيرًا واتساعًا، ومن المؤكد، رسوخًا.

يمكن الجزم أنّ انقسام المجتمع السوري، بعد أكثر من ست سنوات على الحرب في سورية، تكرَّس وازداد الاستقطاب فيه، وأَسَّس تخندُقًا؛ فلا يَرى كلُّ طرفٍ من أطراف الحرب هدفًا أمامه سوى نفي الآخر. وعانى المجتمع السوري، طويلًا، تحييدَ رموز ثقافة الحياة، من حريةٍ وعدالةٍ ومساواةٍ وكرامةٍ وحقوقٍ، وتعزَّز هذا خلال الحرب، لتحل محل ثقافة الحياة تلك، ثقافة الموت وفكره، وليجري تمجيده والاحتفال به، وبث روح الكراهية والنفخ فيها، حتى باتت هذه الثقافة، وهذا الفكر، جزءًا من حياة الشعب اليومية، تتبدى في مفردات لغته وسلوكه.

مع استمرار الحرب، ومع إمكانية استمرار تبعاتها، وإن توقفت قريبًا، ومع الشروخ التي تُحدِثُها في المجتمع وفي أرواح أبنائه، لا يمكن غضّ الطرف عن هذه الحالة، من دون ابتداع أساليب واستراتيجياتٍ وسلوكياتٍ تحدِثُ فرقًا معها، وتؤسس لحالة في المجتمع، لجأت إليها مجتمعات أخرى، عانت مثلما عانى أبناء الشعب السوري. وفي ظل هذه الظروف، ومع تشبع الأرواح بالكراهية، وتبخُّر إرادة العيش المشترك، تصبح هذه المهمة شبه مستحيلة، أمام الأسئلة التي يمكن أن تطرأ عند بدء العمل. فهل يمكن لمن وقع العنف عليهم، ودُمِّرَت منازلهم وحيواتهم، في خضم هذا الصراع، أن يضطلعوا بنشر ثقافة اللاعنف أو أن يكونوا من حاملي لوائها عبر جغرافيا البلاد، الآن، وبعد توقف الحرب؟

في هذا السياق، يفيدنا الكاتب الأميركي ديفيد مكرينولد، الناشط في حركة السلم، في كتابه (فلسفة اللاعنف)، “معابر للنشر” 2009، بأن هؤلاء، وغيرهم من مكونات المجتمع الذين كانوا ضحايا للعنف المباشر وغير المباشر، هم من يجري التعويل عليهم في نشر هذه الثقافة، فيقول: “إن مفهوم التغيير الاجتماعي العميق برمَّته يرتكز على واقع أن المقموعين وحدهم هم من سيقومون بفعل شيءٍ ما لتغيير المجتمع؛ إذ إنهم وحدهم المهتمون”. ومن هنا يمكننا أن نكون أكثر مجازفة، أو أملًا؛ فنقول إنّ من شارك في القتال، من المعارضة والموالاة، يمكن أن يكونوا أكثر أنصار ثقافة اللاعنف حماسةً. ولنا في الجنود الأميركيين العائدين من حرب بلادهم على فيتنام، في سبعينيات القرن الماضي، المثال الأكثر حضورًا، بفضل احتجاجاتهم على الحرب ودعواتهم لوقفها.

يمكن لأي شخص كان القيام بنشاط لا عنفي، بينما يتطلب العمل العنفي أشخاصًا تتوفر فيهم صفات فيزيولوجية محددة، ومن هنا تأتي أهمية معرفة هذه النقطة لجعل الجميع مهتمين بالنشاط اللاعنفي ويساندونه. واللاعنف خيار صعب، يستند إلى أسس كثيرة تساعد في تجذيره في المجتمع. يعتمد اللاعنف على اعتناق أفكارٍ نادت بها الديانات المبكرة، مثل التسامح ورفع الأذى عن الآخرين. إنه اختبار قدرة البعض على التضحية بما في ذاته من حس الانتقام وشيطنة الآخر.

لذلك لا بد من حاملٍ معرفيٍّ وأيديولوجي لجذب الجميع، ضحايا ومذنبين، مقاتلين ومدنيين إلى نشاط لا عنفي. كما يعدّ الأكثر أهمية، في هذا المسعى، التأسيس مع الجيل الجديد ليصبح أفراده مناصرين لهذا النشاط، وهؤلاء لا يمكنهم الاعتقاد به، إن لم يكن له أسس في ذواتهم، أسس ترسِّخها الأسرة في تفكيرهم، ثم المدرسة، وعلى المدرسة تقع المهمة الأساسية التي تنجح بها، إن حظيت المناهج بإشارات أو حتى مقرَّرات في موضوع اللاعنف. ويساعد في استقطاب الناشطين، اعتماد حقيقة أن اللاعنف يجعل الطرف الآخر يتردد في استخدام العنف لمواجهة المحتجين.

أيضًا، قد يطرأ سؤال عن اللاعنف إن كان يمكن أن يجدي نفعًا، من حيث تحقيق مهمات التغيير الاجتماعي الذي هو أسمى ما يطمح إليه المظلومون، والذين هم بدورهم غالبًا ما يكونون وقود أي عملٍ عنفي وضحاياه، في حين أنهم أصحاب المصلحة الأساسيون في هذا التغيير. لقد كان اللاعنف مجديًا في حالات بلدان كثيرة، كانت محتلة أو عانى أهلها أو قسم منهم من آثار التمييز العنصري، على أساس اللون أو الانتماء العرقي. خصوصًا إن كان هذا العمل مترافقًا مع أعمال تنموية، تضطلع بها منظمات المجتمع المدني التي تعمل بالتوازي والتنسيق مع عمل منظمات الضغط اللاعنفية. حدث ذلك -على سبيل المثال- في الهند، مع مقاومة المهاتما غاندي اللاعنفية للاحتلال البريطاني، والتي ترافقت مع نشاطات تنموية وتعليمية، نفذها أنصاره في عموم البلاد، وحدث مع نضال المواطنين السود في الجنوب الأميركي ضد التمييز العنصري.

لعل بلادنا أكثر مكانٍ يحتاج إلى فلسفة اللاعنف وثقافته، الآن وبعد توقُّف الحرب، ويحتاج إلى تكريسها ونشر مبادئها على أوسع نطاق. وإنْ تبناها الجميع ممارسةً؛ فستصبح منهج حياةٍ يصعب معها سوقُ الجميع، مرة أخرى، على تلك الشاكلة التي رأيناها في بلادنا، إلى حروب، هم فيها الخاسر الأساسي، والطرف الذي أوقع الآخرين في خسارة.




المصدر