إسلام أبو شكير: المقتلة السورية سبقت الخيال في بشاعتها



الكتابة الحيادية الباردة لا قيمة لها في مجال الإبداع..

 

بكتاباته، الواقعة على ضفاف العبث والسخرية، والمفعمة بالحزن والأمل، يأخذنا الكاتب السوري إسلام أبو شكير، إلى عوالم مأسويّة/ تراجيكوميديّة مرعبة، هو الذي انحاز، منذ اللحظات الأولى، لثورة أبناء شعبه ضد الطغيان والاستبداد والظلم، كيف لا وهو صاحب أول رواية تتحدث عن (لعبة نقل السلطة) من داخل قصر “الرئيس الوريث”، لتكشف لنا عن قبح وبأس مرحلة زمنية من تاريخ سورية المعاصر.

(جيرون) التقته ليدور الحوار معه حول روايته الأخيرة (النوفيلا) “زجاج مطحون”، وكتابه (الحياة داخل كهف)، بجزأيه: “الصور التذكارية” و”المرايا”، (نصوص سردية)، ومجمل مشروعه الإبداعي، في السنوات العجاف السبع الأخيرة، وما سبقها من مواسم عطاء كرست اسم إسلام أبو شكير واحدًا من الكتّاب المبدعين، في صدارة المشهد الأدبي السوري والعربي.

 

بداية حدثنا عن آخر رواياتك (زجاج مطحون) “منشورات المتوسط “- ميلانو 2016، وما الذي أعطاك فكرة كتابة هذا النصّ؟

بالنسبة إليّ أجد صعوبة في الحديث عن الأسباب المباشرة وراء كتابتي لأي عمل. قد يكون ثمّة أسباب فعلًا، لكنني لا أعيها، ولا أستطيع وضع يدي عليها. كل ما يمكنني الحديث عنه هو المزاج العام الذي ترك ظلاله على العمل. وفي حالة (زجاج مطحون) فإن الإحساس بالعزلة قد يكون أهم العوامل التي حرضت على كتابتها. والعزلة هنا تتجاوز الشخصي إلى العام، بمعنى أنها عزلة الإنسان المعاصر، وانغلاقه على ذاته، وافتقاره إلى حميمية التواصل وحيويته. وكما رأيت، عالم الرواية محدود جدًا.. بمساحة غرفة لا أكثر. والحياة في هذا العالم تقتصر على شخصية وحيدة تحاور ذاتها. لا وجود لحياة اجتماعية في الرواية، ولا وجود لصراعات خارج الذات. وأعتقد أنني بهذا كنت أصور مأساة واقعية، يعيشها الكثير من البشر في عالمنا. مأساة الانقطاع عن الحياة، والانكفاء داخل قوقعة ضيقة بجدران صلبة، وبلا أبواب أو نوافذ تطل على الخارج.

ولا ننسى كذلك الحدث الضاغط الذي ما زال يفرض نفسه، منذ سنوات، بكوارثه وأجوائه الصادمة، أعني الحالة السورية التي حضرت بوصفها خلفية للحدث في الرواية. هنالك حرب في الرواية، صحيح أنها غير معينة بمكان أو اسم، ولكن ليس صعبًا الاستنتاج بأنها المقتلة السورية التي سبقت الخيال في بشاعتها.

يرى نقاد أنّ هذه الرواية (النوفيلا) “تنتمي إلى أدب اللامعقول أو العبث”، وهي “سرد يبني ويهدم.. يؤكد وينفي.. يسأل وينقض السؤال.. وأنها “تفتح باب التفكير واسعًا أمام تفسيرات وتأويلات لكل ما تمّت قراءته، دون أن تقدم إجابة شافية ونهائية حول أي شيء”. هل تراها كذلك؟

لا أدري، إذا كانت كذلك حقًا أم لا.. لكن إذا كان النقد دقيقًا في أحكامه هذه؛ فإنني أكون قد حققت نجاحًا شخصيًا يسعدني كثيرًا. أكون بذلك قد قدمت عملًا ينسجم مع رؤيتي الخاصة بوظيفة الفن عمومًا، والأدب خصوصًا. فأنا ممن يكتب وعينه على السؤال أكثر من الإجابة. لا أحبذ القيام بدور الواعظ الحكيم الذي يقدم أفكارًا ناجزة، ويطل على المتلقي من موقع العارف المطمئن إلى حقيقة ما يقوله، ويعبر عنه. في (زجاج مطحون) حاولت أن أدع الباب مفتوحًا بالفعل لا للوصول إلى كل الإجابات الممكنة فقط، بل لصياغة الأسئلة نفسها. حاولت أن أزج بالقارئ في المأزق نفسه الذي كابدته، دون أن أقترح عليه حلًا معينًا. كانت لدي الرغبة في أن يكون القارئ شريكًا حقيقيًا، كما لو أنه كاتب آخر حقيقةً لا مجازًا.

هل تعتبر (زجاج مطحون) “رواية سيرية” أو “سيرة روائية”، أم ماذا؟

الشخصية الوحيدة في الرواية كانت تحمل اسمي الحقيقي (إسلام أبو شكير)، وقد يكون هذا وراء الظن بأن الرواية “عمل سيري”، لكن الأمر لم يتجاوز هذا التفصيل الصغير. استخدام الاسم هنا كان إجراء تقنيًا خالصًا، وهو لا يحيل إليّ إطلاقًا. هذا ما أظنه، وإن كنت لا أنفي وجود تقاطعات بيني وبين الشخصية في الرواية، لكنها التقاطعات الطبيعية بين أي شخصين في الواقع أو في الفن. وعليه فأنا لا أميل إلى اعتبارها “سيرة روائية”، أو “رواية سيرية”. لا يعني ذلك أنني أتبرأ من هذه الشخصية، فهي تمثلني بكل تأكيد، كليًا أو جزئيًا، كما تمثلني كل شخصية أكتبها، ولكن ليس على النحو الذي نراه في “الأدب السيري”.

هي تمثلني باعتبارها شخصية إنسانية، بيني وبينها مشتركات عامة، على نقيض السيرة التي تفترض تطابقًا (أو توافقًا على الأقل) على مستوى الوقائع التفصيلية، وجزئيات الحياة.

هناك من يرى أن الكتابة، عن السنوات العجاف السبع الأخيرة، تحتاج إلى بعض الوقت لتنضج عن صفتها الانفعالية. ما رأيك؟

المشكلة ليست في الانفعالات. على العكس؛ الانفعال عنصر ضروري في الكتابة، والكتابة الحيادية الباردة لا قيمة لها في مجال الإبداع بشكل خاص. الخشية في الكتابة المواكبة للحدث من غياب التصور الكلي للموقف. فالاستغراق في الراهن ينتج نظرة جزئية فقط، ويفوت على الكاتب فرصة التأمل عن بعد، بما يتيحه ذلك من إمكانية التقاط الجوهري والفاعل. ما حدث في سورية استثنائي وغير مسبوق من حيث البشاعة، إلى درجة أننا نحتاج -قبل أن نصور ونعبر- إلى أن نفهم ونستوعب. نحن ما زلنا نعيش مرحلة الصدمة، وما زلنا مذهولين، لا من حجم البشاعة فقط، بل من بساطة حدوث الجريمة. هنالك لغز يتعلق بطبيعة التركيبة النفسية، لدى مجموعة ليست قليلة من السوريين، ممن فرّطوا بكل شيء من أجل سلطات ليست من حقهم أصلًا. كيف يمكن لكائن بشري أن يكون على هذه الدرجة من الانحطاط والتردي، بحيث يقذف بمصير بلد كامل نحو المجهول لمجرد الاحتفاظ بشكل من النفوذ ينتمي إلى عصور بائدة تجاوزها التاريخ؟!

أعتقد أن الكثير مما كتب عن هذه السنوات مهم، وسيكون علامة من العلامات في الأدب السوري، لكن الأهم لم يأت بعد.. الصورة الحقيقية العميقة المعبر عنها أدبيًا، ما زالت في طور التشكل.

إلى أي درجة أثّرت الثورة/ الحرب على تجربتك الأدبيّة؟

الحرب بالذات لا أحد ينجو منها. الحرب ليست حادث سير مثلًا؛ إنها زلزال يضرب في العمق، وارتداداتها لا تتوقف عند محيط معين. نحن جميعًا ضحايا حرب، وندفع الثمن غاليًا، لكن أين تركت هذه الحرب آثارها في ما أكتب، وكيف؟ هذا هو السؤال الذي أجد صعوبة في الإجابة عليه. ما كتبته في هذه المرحلة يشبه ما كتبته قبلها. هذا ما أراه شخصيًا. فقبل عام 2011 أصدرت مجموعتين قصصيتين، وفيهما نصوص عن الحرب. حرب في سورية تحديدًا. وهناك جثث وانفجارات وخراب. يبدو هذا غريبًا بالنسبة لي، لكنني أفسره بأن الكارثة كانت وشيكة إلى درجة أنها فرضت نفسها قبل أن تحدث.

الآن لا أرى اختلافًا كبيرًا في طبيعة الأجواء التي تحيط بكتاباتي. كل ما في الأمر أن هنالك درجة نضج أكبر، كما أن ما كان مجرد هاجس مقلق أصبح حقيقة ضاغطة، ويفترض هذا أن تحدث نقلة على مستوى الرؤية والاستشراف. وقد يكون هذا هو التحدي الذي أواجهه الآن.

في كتابك الموسوم (الحياة داخل كهف): «الصور التذكارية» و«المرايا»، الصادر مؤخرًا عن “منشورات بيجز” اسطنبول 2017، تعتمد طرازًا من النصّ المفتوح، الذي يجمع بين القصة القصيرة جدًا، والخاطرة، والشذرة السردية، وقصيدة النثر في صيغة الكتلة. هل أنت من الكتّاب الذين لا تهمهم هوية النص الإبداعي، وبالتالي غير ميال إلى التجنيس عند الكتابة؟

التجنيس في الكتابة أمر واقع، وكل ما تم التنظير له حول النصوص المفتوحة والعابرة للحدود لم يجد تجسيدًا حقيقيًا له. ما زالت الكتابة تدور ضمن الأفلاك الواسعة للأجناس الأدبية المعروفة: الشعر، القصة، الرواية، وسواها، هنالك تعديلات على الحدود، ومساحات على التخوم تلتقي فيها الأجناس، لكن الهويات لم تتغير..

ما أكتبه لا أجد حرجًا في القول إنه ينتمي إلى فن القصة القصيرة، بما في ذلك عملان طويلان هما (القنفذ) و(زجاج مطحون). عملان مكتوبان بتقنية القصة القصيرة، فهنالك شخصية مركزية، ومكان ضيق، وزمان محدود، فضلًا عن الأحداث التي تسير في خط واحد، دون أن تتقاطع مع سواها. وهذا كله من الخصائص التي تميز القصة عن الرواية.

أما كتاب (الحياة داخل كهف) بجزأيه: «الصور التذكارية» و«المرايا»، فهو مجموعة نصوص سردية بامتياز. هذا ما أراه، وإن كنت لا أنكر أن الكثير من النصوص كانت تستعير وسائل تعبيرية من فنون أخرى، لا سيما الشعر. تفعل هذا دون أن تفرط بهويتها، أي أنها لا تتخلى عن لغتها السردية، وبنائها الدرامي، ولا تجنح كثيرًا نحو عالم المجردات، أو لغة المجاز لتصبح غير ما هي عليه.

أعود معك إلى روايتك الأولى الموسومة بـ (القنفذ ـ سيرة حياة طويلة جدًا) – 2013، هل يمكن أن نعدّها “رواية توثيقية” لما حدث في سورية، في العقود الأربع الماضية؟ وهل تعتقد بأن الأدب قادر على تعويض التاريخ؟

(القنفذ) كانت محاولة للبحث في أحد جذور المأساة السورية، عبر اقتحام البيت الصغير الذي يضم أسرار العائلة الحاكمة، بغرض فضح هذه الأسرار أولًا، والكشف عن حجم التردي الأخلاقي الذي وصلت إليه عائلة الأسد ثانيًا، وبيان هوسها المجنون بالسلطة ثالثًا.

الوقت الذي استغرقته أحداث العمل لا يتجاوز بضع ساعات، تبدأ من لحظة وفاة الأب وتنتهي بلحظة إعلان الوفاة، لكنها لم تصور ذلك على الطريقة الواقعية التسجيلية، أي أنها لم تكن توثيقًا وتدوينًا تاريخيًا، بل خرجت بالأحداث نحو مسار له طابع الغرائبية واللامعقول، وذلك بغرض الوصول إلى العمق، وعدم الاكتفاء بالسطح الظاهر.

التركيز في العمل كان على شخصية “الرئيس الوريث” الذي أصبح رئيسًا، بالمصادفة المحضة. حالة الاضطراب النفسي التي يعانيها.. الأحقاد المتراكمة.. الماضي المثقل بالأزمات.. كل هذا حاول العمل تسليط إضاءات عليه، قد تساعد في وضع تفسيرات منطقية للمآلات المأسوية التي قادت إليها سياساته فيما بعد.

أصدرتَ ثلاث مجموعات قصصية حتى الآن. سؤالي: برأيك هل القصة القصيرة لا تزال فنًا مفتوحًا على آفاق كثيرة؟ وهل توافق الرأي القائل: إنّ “القصة القصيرة جدًا هي سرد المسقبل”؟ وبرأيك، أيهما الأقدر أدبيًّا على وصف المأساة السورية، والتقاط إرهاصات الأمل: القصة أم الرواية؟

القصة القصيرة فن عظيم، وإمكاناته التعبيرية هائلة. شخصيًا أجد نفسي في هذا الفن، لكنني لا أريد أن أتورط في لعبة المقارنات. أي الفنون هو الأفضل، أو أي الفنون هو الذي سيهيمن؟ الإبداع فضاء واسع مفتوح، وبإمكان الفنون جميعًا أن تتعايش فيه. لا أدري لماذا نصر على أن العلاقات بين الفنون هي علاقات تنافس وصراع!

القصة القصيرة جدًا فن جميل أثبت وجوده، لكنه لا يستطيع أن يحل محل الرواية، كما أن الرواية لا تستطيع أن تحل محله. لكل منهما دور ووظيفة وأدوات وعوالم، بحيث لا مجال لمقارنات تفترض إزاحة أحدهما لصالح الآخر.

تهيمن أجواء “الفانتازيا” و”الغرائبية” على الكثير من نصوصك الأدبية؛ فأيّ دلالات لذلك؟

الفن عمومًا خلق. وأنا أجد الترجمة العملية لمفهوم (الخلق) في انطلاق الخيال انطلاقًا حرًا، لا تحد منه قوانين الواقع المألوفة.

ما أحاوله دائمًا أن يكون لي عالمي الخاص بقوانينه الخاصة؛ وهذا ما يساعدني على الكشف عن حقائق في الوجود لا تكشفها النظرة التقليدية. فمن خلال بناء هذا العالم المختلف أستطيع أن أصل إلى مناطق مجهولة تتعلق بالإنسان أو الحياة أو الوجود. فالفانتازيا ليست هدفًا بذاتها، بقدر ما هي وسيلة للارتحال نحو الأبعد والأعمق والأخطر.

عالمنا الواقعي يسير وفق قوانين محكمة منضبطة، لكن ما وراء هذا الواقع أو فوقه من مشاعر أو حالات وجدانية أو أحلام أو تطلعات أو هواجس هو خارج سلطة هذه القوانين، من هنا، كانت الفانتازيا ضرورة لفهم ذلك كله.

أرى أنك تمتاز باختيار عناوين غير مألوفة لأعمالك الأدبية، حيث تلجأ إلى عالم الأرقام، والرموز الرياضية والدلالية، كعنوان المجموعة القصصية «30 > 43» و«الـ  Oسلبي الأحمر والمشع». كيف تفسر لنا هذا؟

مع اهتمامي المتواصل في ارتياد بعض الآفاق التي أشعر أنها بكر في عالم القص، أحاول كذلك تجريب تقنيات وأدوات مختلفة. توظيف الأرقام والرموز، وأحيانًا الهوامش، أو الجداول، أو سواها، يأتي في هذا السياق. أجرب ذلك في متون القصص، وفي العناوين أيضًا، وبالطبع لا أدعي أنني الوحيد من كتّاب القصة ممن يجرب مثل هذه الأدوات، فهناك قاصون آخرون سبقوني إلى ذلك. الفكرة هنا تكمن في حشد كل الوسائل الممكنة التي تساعد في إيصال العمل إلى المتلقي.

أخيرًا، كيف تستمر بالكتابة بينما يجلب كل يوم أخبارًا عن فظاعات ومصائب بشرية، تحدث في بلدك؟

ما من خيارات أخرى متاحة. الكتابة هنا هي أقصى ما أستطيع فعله؛ وأعني بالكتابة ذلك الفعل الحضاري الجمالي الذي يصر على الاستمرار في مواجهة حالة الرعب والتردي والانحطاط. تقديري الشخصي أن أشد ما يربك هؤلاء القتلة هو الجمال أيًا كانت صيغته. الكتابة، أو الموسيقى، أو الرسم، أو سواها..

القاتل لا يخشى السلاح كثيرًا، فلديه سلاح هو الآخر يمكن أن يستخدمه للرد. ولكن ماذا عن قصيدة أو قصة أو لوحة أو رقصة؟! هو يفتقر أصلًا إلى الحس الجمالي الإنساني، ولو كان يمتلك شيئًا منه لما تحول إلى قاتل.

جدير بالذكر أنّ القاص والروائي إسلام أبو شكير، من مواليد 1966 في مدينة البوكمال (سورية). يعمل في الصحافة في الإمارات العربية المتحدة، وتولى لسنوات مهمة المنسق الإعلامي في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، ويعمل الآن ضمن هيئة تحرير مجلة (الرافد) الشهرية التي تصدر عن دائرة الثقافة في الشارقة.

صدر له ثلاث مجموعات قصصية، كما صدرت له روايتان، ومجموعة نصوص سردية من جزأين.




المصدر
غسان ناصر