ازدواجية الخطاب الـديني والقضية السورية



مما لا شك فيه أن مأساة مسلمي الروهينغا في ميانمار مأساةٌ على المستوى الإنساني، وأنّ إدانة الإمام أحمد الطيب لها مُحقّة، لكنه ليس مُحقًّا في أن يعتبرها مأساةً لم تعرف البشرية مثلها؛ ذلك أنه تناسى المأساة الفلسطينية، والمأساة السورية، والعديد من مآسي منطقتنا التي تفوق مأساتهم مأساة الروهينغا بأضعاف؛ وهنا نحن أمام ازدواجية الخطاب الديني، لأنه خطاب يخضع لرضى الوالي المصري.

لا بد من الإشارة إلى أن شيخ الأزهر يُعيَّن من قبل رئيس الجمهورية، وكذلك كل المفتين ورجال الدين، ومثلما يقول المثل الدارج: “من يأكل من صحن السلطان، يضرب بسيفه”، ومِن هنا فهو ليس قادرًا على اتخاذ المواقف ذات البعد الإسلامي، قبل الوطني، وقبل الإنساني.

فضيلة “الإمام الأكبر” -كما يحلو لمريديه وللسلطة السياسية التي عيّنته أن تنعته- لا يخرج عمّا يريده أصحاب السلطة السياسية، من مواقف وفتاوى، فهو يكيل الأمور بمكيال واحد، هو مكيال الأجهزة الأمنية التي لا يمكن أن يُعيَّن دون موافقاتها، فهو في البداية والنهاية موظف من الدرجة الأولى، يتصرف كما يفرض عليه من يدفع راتبه.

عندما ظهرت ظاهرة “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”، أي (داعش)، تنادى العديد من مسلمي العالم، وطلبوا من الأزهر الشريف، بشخص إمامه، أن يدين (داعش)، لكنه رفض أن يُصدر هذه الإدانة، مُبررًا الأمور، بطريقة “فهلوية” أبعد ما تكون عن الإسلام. لكن عندما ضربت (داعش) في قلب مصر، وفي سيناء، سارع هذا الإمام إلى إصدار الفتاوى التي تُحرّم وتُدين (داعش).

لم يتجرأ قط شيخ الأزهر هذا أن يستنكر المأساة السورية، وقبلها الفلسطينية، والعراقية، والسودانية، والليبية.. إلخ؛ ذلك أن موقف حاكم مصر لم يكن واضحًا منذ بداية ثورات الربيع العربي، وبعد إعادة تأهيل نظام العسكر، عن طريق ثورة شعبية مزعومة، أوصلت العسكر إلى السلطة، وكانت هذه “الثورة” انقلابًا عسكريًا، توضّح موقفه المعادي للثورة السورية ومساندته لسفاح سورية؛ فبلع شيخ الأزهر لسانه، ولم يكن لديه الجرأة والشجاعة أن يستنكر ما حدث في سورية.

لو قمنا بمقارنة عددية، بين مسلمي الروهينغا المطرودين من ميانمار، وبين المطرودين والهاربين من عسف النظام الأسدي؛ فسنرى أنّ عدد من طُرد من سكان مدينة حلب وحدها يفوق بكثير أعداد مسلمي الروهينغا، ولكننا لم نر أي شيخ أو إمام مسلم، لأي مذهب انتمى، يستنكر المأساة السورية، باستثناء قلة قليلة من رجال الدين. هنا نتساءل، أليس هؤلاء مسلمين أيضًا، يا فضيلة الشيخ؟ ألم تر كيف يُذبحون، ويُقتلون، ويُشرّدون، ويُطردون من بيوتهم، ومدنهم بطريقة بربرية؟ ألا يستحقون منك بيان استنكار؟ من المعيب أن يكون خطاب رجل دين، بمستوى شيخ الأزهر، حادًا في استنكار مأساة الروهينغا، وضعيفًا في استنكار المآسي التي ترفل بها المنطقة.

لا يقع اللوم عليه فقط، بل على كل رجل دين يزدوج خطابه، حسب هوى الحاكم، ولنا في مفتي الديار السورية أحمد حسون، نموذجًا آخر من تكالب رجل الدين على السلطة والمال، وكذلك آيات الله التي تُفسّر الأمور، حسب رغبات الولي الفقيه، حيث نرى أنهم ليس فقط يرفضون إدانة الجرائم التي تحدث في المنطقة، وعلى الشعوب المسلمة بالدرجة الأولى، بل نراهم يُشجّعون على عمليات القتل والذبح لمسلمين من دينهم، إضافة إلى سكوتهم عن استباحة دم المسيحيين، وعدم استنكار جرائم (داعش) بحق مسيحيي سورية والعراق، فكأن هؤلاء ليسوا ببشر.

ما نقوله عن ازدواجية الخطاب الديني الإسلامي، نقوله عن الخطاب الديني المسيحي، حيث يسعى البطاركة والمطارنة المشرقيين، في كل بقاع الأرض، إلى أن يُلمّعوا النظام القاتل الذي سبب طرد رعاياهم في كل بقاع الأرض، مثلهم مثل باقي مكونات الشعب السوري.

من المفروض برجل الدين أن يقف مع الحق ضد الباطل لا العكس، فالديانة المسيحية تفرض على المسيحي، ولا سيّما رجل الدين، أن يقف مع الحق الذي بشّر به السيد المسيح، إذ قال لأتباعه: “إن الحق يُحرركم”، وهذا تأكيد على أهمية الحق والحرية للإنسان. ألم يكن أجدى بالمشرفين على دير السريان الأرثوذكس أن يرفضوا استقبال الطاغية الذي دنّس الدير بزيارته، فكيف يقبل دخول قاتل إلى ديار أرض من المفروض أن تكون مقدسة!

حبّذا لو يعود رجال الدين ذوو الخطاب المزدوج إلى ديانتهم الحقيقة، ويتخذون المواقف بموجب مبادئ هذا الدين -لا بموجب ما يقوله الحاكم الطاغي- مثل الموقف الذي وقفه المطران المُغيّب مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الذي نطق بصوت الحق في وجه النظام الأسدي الباغي، ومن المؤسف حقًا، أن يُستقبل من غَيّب المطران يوحنا إبراهيم وبولس اليازجي، في الأرض التي تعود إلى السريان.




المصدر
بهنان يامين