اللحوم الحمراء في سورية.. مفارقة عابرة للحدود



تفتقر مائدة أسرة “أحمد، ع” (موظف حكومي) إلى اللحوم الحمراء، منذ قرابة أربع سنوات؛ ففي ظل الحرب التي تشهدها سورية -كما يقول- “لم يعد يهمنا ماذا نأكل، بقدر ما يهمنا البقاء أحياء، وسط هذه الضوضاء القاتلة”.

على غرار أسرة أحمد، تخلو موائد آلاف الأسر، من اللحوم بأنواعها، وتعتمد في مكوّن غذائها على الخضروات، حيث تتناسب أسعارها مع الدخل الثابت لـ 2.5 مليون عامل في القطاع الحكومي، لم تعد رواتبهم، بعد أن فقدت الليرة قيمتها، تكفي لنفقات أساسيات الحياة اليومية، وفواتير الخدمات العامة.

في الحالة السورية، لم تترك قوانين الصراع الجهنمي فسحة من الوقت، لكي يمارس الناس حياة طبيعية، في مأكلهم ومشربهم وحركتهم، لا تختلف عمّا ألفه المجتمع في السابق. وكأن الضغوط السياسية والاقتصادية التي فُرضت عليهم من أعلى، هي الجزء المعني بما يجري على المستوى العام، بهدف إعادة إنتاج فضاء، يسمح للديكتاتورية أن تعيد بناء نفسها، ولكن على نحو أسوأ.

قبل فترة وجيزة، كشفت صورة لأطفالٍ من مدينة دوما، المتاخمة للعاصمة دمشق- نشرتها وكالة الصحافة الفرنسية، وصنفتها صحيفة (الغارديان) البريطانية، ضمن الصور العالمية المنتقاة أسبوعيًا- بؤسَ حياة بشرية لم تترك لها مخلفات الحرب، من الدمار والأذى الجسدي والنفسي، ما يسمح لأفرادها بممارسة طقوس الفرح كغيرهم، خلال أيام عيد الأضحى الذي يشتهر عادة بأضاحيه ذات اللحم الأحمر.

قد يتطابق هذا المشهد مع حالات أخرى، تبدو أكثر تعقيدًا، تعيشها عائلات في أماكن متفرقة من البلاد. تنام وتستيقظ على وقع الانفجارات، والأدخنة المتصاعدة، والجثث العالقة بين ركام الأبنية التي هدمتها صواريخ الأسد وطائرات حلفائه. تفتقر موائدها هي الأخرى إلى مصادر غذاء كافية، تعين أفرادها على البقاء قيد الحياة.

يقول أحمد: أعتقد أن معظم الناس اليوم، على شاكلتي، يحلمون بقطعة لحم حمراء، ليس بمقدورهم الحصول عليها، بسبب فراغ جيوبهم. هناك من يعتقد أن العاصمة أحسن حالًا من غيرها، مع أننا جميعًا نعيش ما يشبه حالة “سفر برلك”، في ظل هذه الحرب.

في دمشق، ارتفع أخيرًا سعر لحم الخروف إلى 5.5 ألف ليرة للكيلو غرام الواحد، أي ما يعادل سُدس الحد الأدنى لراتب الموظف الحكومي؛ ما دفع أغلب الأسر إلى الاستعانة بلحم الدجاج، بالرغم من ارتفاع سعره هو الآخر. أو الاستعاضة عنهما بمادة غذائية مصنعة حديثًا، غير مكلفة الثمن، تشبه اللحم بطعمها، تنتشر حاليًا في الأسواق المحلية.

ينفي أحمد أنه استخدم هذا النوع المُصنّع في طعامه، لأنه يجهل هويته، ولا يعرف صحة ما تروّج له الشركة المنتجة من أن مصدره نباتي “فول الصويا”. وأضاف: في الظروف الحالية، ازدادت حالات غش المواد الغذائية على نطاق واسع، ولم تنج منها حتى اللحوم الحية، فكيف سأطعم أولادي صنفًا غذائيًا لا ثقة لي بجودته أو صلاحية استخدامه، في ظل غياب شبه كامل للرقابة الصحية، والمواصفة القياسية للمنتج.

يؤكد أحد أعضاء جمعية حماية المستهلك -وهي منظمة غير حكومية– أن نسبة الغش في لحم الخروف المعروض حاليًا تبلغ نحو 20 بالمئة، وفي لحم العجل تبلغ نحو 90 بالمئة.

وعادة ما يتم الغش علنًا، دون أي خوف أو قلق أو حتى خجل؛ لأن حكومة النظام مشغولة بما هو أهم من ذلك. فقد أعلنت غير مرة، أن جهودها الراهنة تنصب، بشكل رئيسي، على توفير الدعم المالي واللوجستي لجيش الأسد في معاركه ضد المعارضة.

أدت الحرب إلى فوضى سيطرت على مختلف قطاعات الدولة، بما في ذلك القطاع المشرف على صحة وسلامة الغذاء. ويرى الخبير في شؤون الاقتصاد إياد الدباغ أن المخالفات التي ترتكب علنًا، في الصالات المعدة لذبح الماشية في دمشق، وهي صالات حكومية، تفوق -كما تفيد تقارير شبه رسمية- ما يرتكب من مخالفات في صالات الذبح الخاصة. وتساءل في حديث لـ (جيرون)، عن مغزى غياب النشرة الرسمية لأسعار اللحوم في دمشق، التي كانت تصدرها مديرية التموين، بالتنسيق مع جمعية حماية المستهلك وجمعية اللحامين، منذ مدة طويلة؟ مع أن اللحوم هي المادة الغذائية الوحيدة التي تصاعدت أسعارها، من دون تراجع.

ففي حين تتنافس عائلات الطبقة الداعمة لنظام الأسد، على مستوى الملاءة المالية، لكل منها، وحجم إنفاقها على السلع الكمالية، ونوعية الغذاء الذي تستهلكه؛ تقف الطبقة التي سحقتها الحرب، من موظفين وعمال وحرفيين وصغار كسبة، مكتوفةَ اليدين، عاجزة عن توفير كمية قليلة من لحم الضأن، أو لحم العجل، أو من اللحوم البيضاء كالسمك، لأفراد عائلاتها.

تزيد الفجوة بين الدخل والإنفاق، وتتفاقم منذ سنوات، من معاناة فئة الدخل المتدني، كما تؤثر بشكل واضح على طبيعة نظامها الغذائي، وتناولها البروتين الحيواني مقارنة بدخلها الشهري.

ومع أن سورية لم تخضع لنطاق مسوحات مؤشر أسعار اللحوم العالمي لعام 2017، الذي أصدرته مؤسسة (كاتيروينغس) caterwings البريطانية “المعنية بالغذاء”. غير أن الاستفادة من تحليلات ومعطيات المؤشر تسفر عن نتائج مثيرة، ليس بالنسبة إلى الأسعار فحسب، بل بالنسبة إلى القدرة على تحمل تكاليف الشراء من السوق المحلي. فوفق معايير المؤسسة، ينقسم المؤشر إلى خمس فئات منفصلة: لحوم (بقر، دجاج، سمك، خنزير، ضأن). وبحسب السعر الرائج للكيلو غرام منها في أسواق دمشق، (9.5 دولار للحم الضأن، 7 دولارات للحم العجل،  8دولارات للحم السمك،  2.1دولار للحم الدجاج) تصنف اللحوم السورية في مقياس  متوسط السعر العالمي، ضمن الفئة الرخيصة عالميًا. لكن المفارقة تكمن في أن المواطن السوري الذي يبلغ الحد الأدنى لأجره الشهري 35 ألف ليرة، ما يعادل 67 دولارًا، يتعين عليه أن ينفق أجور 17.5 ساعة عمل من أصل 35 ساعة عمل أسبوعية، ثمنًا لكيلو غرام واحد من لحم العجل، بخلاف المواطن السويسري (تصدرت سويسرا المؤشر بالنسبة لارتفاع أسعار اللحوم) الذي يتعين عليه أن ينفق قيمة 3.1 ساعة فقط. ما يعني أن المواطن السوري عليه أن يعمل ستة أضعاف الوقت الذي يعمله السويسري لشراء كيلو غرام واحد، مع أن اللحوم في سويسرا هي الأغلى عالميًا، حيث يبلغ ثمن كيلو غرام لحم العجل في أسواقها نحو 49.7 دولارًا، بينما يبلغ في سورية 7 دولارات.




المصدر
علاء كيلاني