موقع الثورة السورية من استراتيجيات السياسة الخارجية للصين



لم تدخل قوة عظمى القرنَ العشرين، على نحو مؤلم وقاس، كما دخلته الصين، فقد عانت في القرن التاسع عشر من الكثير من الحروب التي أنهكتها، وأدت إلى ضعف الإمبراطورية، يضاف إلى ذلك جمود نظام الحكم المعتمد على الكونفوشية، بطريقة عجزت بها عن التحديات المتشكلة من تطور الحضارة الغربية وتوسعها حول العالم، خلال الفترة الاستعمارية، ودخلت مع عام 1900 قوى روسية وأميركية ويابانية وفرنسية وبريطانية وإيطالية ونمساوية وإنكليزية وألمانية، إلى الصين، بحجة قمع ثورة (البوكسر)، وكلّ من تلك القوى يريد ربط الصين بنظامه الخاص، واستمرت الإمبراطورية حتى عام 1911، ليقوم الكومنتانغ (الحزب القومي الصيني)، بقيادة ثورة قضت على الإمبراطورية؛ وأعلنت الجمهورية الصينية عام 1913، وتفككت الصين تحت سلطة أسياد الحرب، وحكومة مركزية ضعيفة جدًا لديها سياسة خارجية، ولكنها لا تملك السيادة على العلاقات الخارجية التي تدور في مختلف الجغرافيا الصينية.

دخلت الصين الحربَ العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، وأرسلت عمالًا إلى فرنسا وغيرها، حلوا محل من غادر إلى جبهات القتال، ولكن في (مؤتمر فرساي) تم تجاهلها وازدراؤها، حيث خُصِّصت الأراضي الصينية التي كانت تحت سلطة الألمان لليابان، وردًّا على هذه الإهانة؛ انطلقت ثورة عارمة في الصين في ما عُرِف بـ “حركة الرابع من أيار”، وتمكن شيانغ كاي شيك رئيس الكومنتانغ من السيطرة على البلاد، وتعدّ تلك الثورة ميلادًا للقومية الصينية الحديثة.

لم يكن شيك قد سيطر فعليًا على الصين، حيث لم يعترف به أسياد الحرب، في الكثير من المناطق إلا شكليًا، وفي مناطق الأقليات العرقية، ما عاد البعض يعترف بحكم الصين نهائيًا، لكن شيانغ تمكن من تأسيس حكومة مركزية أقوى من أسلافه على الرغم من ضعفها، واستطاع من خلالها إطلاق سياسة خارجية نشطة.

بنت الصين سياستها الخارجية، في النصف الأول من القرن العشرين، انطلاقًا من ضعفها، سواء بالأهداف أو نمط العلاقات والسلوك، فأهدافها كانت أهداف أمة لم تعد عظيمة وتسعى لأن تكون عظيمة ثانية، وتُختَصَر بثلاثة أهداف وهي: الوحدة النابعة من قناعة الصينيين التامة بارتباط عظمة الصين دائمًا بوحدتها تحت مظلة حكم سياسي مركزي. والاستقرار والازدهار الذي فرضته الفاقة والعوز الذي ألم بالشعب الصيني مُعزَّزًا بإغراق في التفكير في خيرات الماضي العميمة. والاحترام الذي ربط قادة الصين، طوال قرن من زمان، بمعاهدات مع الآخرين، والمعاملة التي تلقتها الصين بعد الحرب العالمية الأولى. أما نمط العلاقات فقد عرف الصينيون أنهم في حالة ضعف لا يمكنهم الاعتماد فيها على أنفسهم في مواجهة القوى الطامحة في السيطرة على الصين، ولذلك كانت سياستهم ترتكز على تطويع استراتيجيتهم، بما يتلاءم ومتطلبات حليفهم الخارجي الذي يختارهم أو يختارونه، واختيار الحليف الأقرب لتطلعاتهم.

تميزت فترة ما بين الحربين، بانطلاق اليابان برغبتها في أن تكون البلد القيادي في المنطقة، وحاول تشيك إيجاد حليف خارجي، يقف في صف الصين في وجه الطموحات اليابانية، وطلب المساندة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة؛ ولكن دون فائدة، فقد كانت القوى مشغولة بقضايا داخلية نتجت عن الكساد الكبير، وفي الداخل بدأ الحزب الشيوعي الصيني الذي تأسس عام 1921 بالتوسع، وتطورت الأمور إلى حرب أهلية بين الطرفين، في حين أن اليابان لم تمانع في جهود شيانغ لتوحيد الصين، طالما أنها صين موحدة ضعيفة تستجيب للضغوط اليابانية، واحتلت الأخيرة منشوريا عام 1931، دون أن تلقى الصين أي تأييد لرفضها للاحتلال، ومع تنامي التيار القومي، وخاصة في صفوف ضباط الجيش، لم يعد من الممكن تجاهل المناخ المعادي لليابان، وقرر شيانغ مقاومتها دون حليف خارجي؛ ما أدى إلى غزو الصين من قبل اليابان، عام 1937، ولم ينتبه أحد إلى الدور الفعال للصين كحليف، حتى تحالف اليابان مع النازيين 1939، وكان السوفييت يساعدون سابقًا الكومنتانغ في السيطرة على الصين، حتى على حساب رفاقهم الشيوعيين الصينيين، ومن ثم أصبحت الولايات المتحدة حليفة قوية، بعد هجوم اليابانيين عليها، في ميناء بيرل هاربر1941.

بعد الحرب العالمية، بدأت الصين القوية بالتشكل، تحت حكم الحزب الشيوعي، بزعامة ماو تسي تونغ، بعد أن أعلنوا جمهورية الصين الشعبية، وكانوا قد أبعدوا قوات الكومنتانغ حتى تايوان التي لم تعترف سوى بنفسها جمهوريةً للصين. وبدعم من الاتحاد السوفييتي، تمكنت الصين الشعبية من تمثيل الصين رسميًا، وأخذت الكرسي الدائم في مجلس الأمن، واستمرت الصين في أهدافها السياسية في الوحدة والاستقرار والاحترام، ونمط علاقاتها في تطويع استراتيجياتها مع الحليف، ووجدت في السوفييت الحليف الأنسب، ووقعت معهم تحالف 1950، ومن ثم حمت حكومة كوريا الشمالية من الانهيار التام، في الحرب الكورية 1950-1953، واتبعت النموذج السوفييتي في احتكار الحكم للشيوعي والاقتصاد الموجه والمزارع الجماعية وأولوية الصناعات الثقيلة، ولكن بدأ الخلاف في نهاية الستينيات، إذ لم ترض الصين بمنح السوفييت مواقع عسكرية جديدة، ولم تدخل في الكوميكون “التكتل الاقتصادي السوفييتي”، ورغبت الصين في التخلص من التبعية للروس وحاولت مع أميركا، وبدأت محادثات في جنيف، سرعان ما أغلقت بسبب قضية تايوان، واتجهت إلى العالم النامي راغبة في تشكيل قطب يحميها وخاص بها، وتواصلت مع حركات ثورية في مناطق نفوذ الأميركيين مثل تايلاند، أو الروس مثل أنجولا، ولكن هذه السياسة وضعتها في عين الخطر، وكان لا بد لها أن تعود إلى التحالف مع أحد قطبي الحرب الباردة.

حاول ماو تسي تونغ، في مشروعه (القفزة الكبرى) 1957-1960، تحويل القاعدة الاقتصادية في الصين مع هيكلها العلوي الأيديولوجي والسياسي، لكن تسببت القفزة بكارثة في الاقتصاد، ومن ثم حاول تغيير الأفكار السياسية للشعب الصيني، من خلال (الثورة الثقافية) 1976-1966.

بعد موت ماو، استلم دينغ زياوبنغ الصينَ مرهقة من مشاريعه، وبعد ضمان “وحدة الصين” والرغبة في الاستقرار، ربط زياوبنغ الأمنَ القومي بالتنمية الاقتصادية، وانفتح على الاستثمار الأجنبي، وأقام مناطق خاصة لعمل الشركات الأجنبية، واستمرت سياسته حتى اليوم، وقد أدت إلى وصول الصين إلى المرتبة الثانية عالميًا في الاقتصاد، وزادت تجارتها الخارجية بين 1980-2000 خمسًا وعشرين ضعفًا، كما انفتحت على الولايات المتحدة، ونمت علاقات تجارية ضخمة بين البلدين، وواجهت الاتحاد السوفييتي بقوة دفعته إلى تخصيص 30 بالمئة من جهده الدفاعي لها. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ خرجت آسيا من ضغط الحرب الباردة، وكانت الصين من المستفيدين الكبار لذلك، ومنذ حرب (الأفيون) بدأت المرحلة التي لا تواجه فيها الصين تهديدًا قريبًا لأمنها.

بالرغم من أن الصين ما زالت تتبع سياسة دفاعية هادئة، في علاقاتها مع الولايات المتحدة، فقد اقتربت من القوة الثانية في المحيط الهادي “المجال الحيوي للصين”، وحسب دراسات عن التعداد السكاني، فإن الصين ستتخطى حاجز 4 مليار عام 2030؛ ما سيدفعها إلى الانتشار بعيدًا،  ويرى محللون أن هناك حربًا باردة الآن، بين الصين والولايات المتحدة، على الرغم من أنه من الصعب أن تأخذ شكل الحرب الباردة القديمة، لعمق العلاقات الاقتصادية وتشابكها بين الطرفين، ولكن لا تخفي الولايات المتحدة أبدًا رغبتها في إضعاف الصين، والإبقاء على مكامن زعزعة أمنها بيدها، مثل رعايتها لزعيم التيبت وتايوان واليابان، وكذلك كوريا الجنوبية، ولا تخفي الصين رغبتها أبدًا في التحرك عسكريًا بعيدًا عن حدودها، ويبدو ذلك جليًا في القانون الذي صدر عام 2014، ويسمح بتحرك جيش التحرير الشعبي خارج الصين، لحماية أمنها القومي، وفي ضوء هذا التنافس، هناك روسيا التي تبادلت الأماكن مع الصين في طبيعة العلاقة بين القوى العظمى الثلاث.

في ظل هذه السياسة، تأتي رؤية الصين للقضية السورية، فنظام الأسد في سورية -بحسب باحثين صينيين- صديق طبيعي للصين، نتيجة التقارب الأيديولوجي، وسورية نقطة ارتكاز مهمة لها، في خطتها المستقبلية، في التوسع في مناطق مصادر الطاقة، وبوابة مهمة لنقل البضائع الصينية لأوروبا عبر تصنيعها في سورية، حيث حوت منطقة عدرا الصناعية ما يزيد عن مئتي شركة صينية قبل الثورة، ولكن ما هو أهمّ -بالنسبة إلى الصينيين الذين استخدموا الفيتو ثلاث مرات ضد الثورة السورية- هو المجال الحيوي للصين، حيث تسعى لتبقي على روسيا التي تشترك معها بحدود طويلة وتاريخ مضطرب حليفة لها في حربها الصامتة ضد الولايات المتحدة، ولعل الولايات المتحدة تسعى للشيء نفسه، فبالرغم من أن روسيا عملاقة عسكريًا، لكنها اقتصاديًا غير قادرة على الاستفادة من تلك القوة المتورمة، لتكون قطبًا من جديد، وتبقي الصين على علاقة جيدة مع روسيا منعًا من تحولها مستقبلًا إلى منطقة نفوذ أميركي ضدها، كما كانت هي يومًا تلك المنطقة ضد السوفييت، وعليه؛ لن يكون هناك تغيير في السياسة الصينية تجاه الثورة السورية؛ لأنها تنطلق من كسب موسكو، كحليف هادئ على حدودها.




المصدر
رعد أطلي