‘أنس سلامة: الرسم بالقهوة’

17 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
10 minutes

“في أحداث سورية، ارتبط مخزون المعاناة الفلسطينية بالواقع الذي أراه بعيني، وبدأت أعمالي تتأثر بما يحيط بي؛ فأحس أن روحي هي من ترسم وليست يداي”.

أنس سلامة فنان فلسطيني (مواليد 1979، دمشق مخيم اليرموك)، وهو من الكثيرين الذين سمعوا عن المعاناة الفلسطينية من دون أن يروها أو يختبروها. درس الديكور والتصميم الداخلي في معهد vtc التابع لـ (أونروا)، والرسم والنحت في مركز أدهم إسماعيل، إضافة إلى دراسة الإعلام في جامعة دمشق.

هو الفنان الذي تنوعت أعماله بين الرسم التشكيلي، ورسوم الأطفال، والـ “مالتي ميديا”، وتصميم الأفكار وإخراجها للأطفال. وجد نفسه مع بدء الربيع العربي ملتحمًا باللوحة التي بات يرسمها بسرعة وآنية، نظرًا إلى ارتباطها بالحدث الحاصل حولها، وكأنها في سباق مع الحدث لتوثقه؛ معتبرًا أن الانتفاضة السورية التي شهد ملامحها، أعطته -في الواقع المعاش- ما لم يكن يعرفه عن واقع المعاناة الفلسطينية.

بعيدًا نوعًا ما، عن آلامه ومعاناة اللجوء التي صدمته واصطدم بعنفها وجراحها العميقة، كان حوارنا الهادئ:

– يقولون إن اللحظات الأكثر إثارة تكون حين يكتشف الكاتب أنَّ الحياة بدأت تدب في شخصيات روايته. هل لوحاتك هي بالأصل لشخصيات متخيلة أم واقعية ترتبط –ربما- بواقع وتاريخ اللجوء السابق واللاحق، أو بدقة أكثر، هل لشخوص لوحاتك أو رموزها علاقة بالحقائق التي تعيشها وباختيارات الذاكرة الفنية لها؟

= لربما كذلك هو الفن التشكيلي.. فالفنان -عادة- يرتبط بشخوص لوحاته، لأنها بالنهاية انعكاس لهواجسه الداخلية، وهي تعبير عن تلافيف الذاكرة والروح معًا. بالنسبة إلي، فإن أدواتي هي (الخط والشكل واللون)، ومن خلال هذه المفردات، أحاول إخراج مفردات بصرية على اللوحة؛ لتعبّر عن مخزون ذاكرتي وإحساسي، لكني أدرك باستمرار، عند انتهاء اللوحة، أن أدواتي لم تستطع إيصالي إلى الإحساس الداخلي الذي حاولت تجسيده من خلالها. إذًا، المشاعر التي ينقلها لنا الشاعر والكاتب والموسيقي والراقص.. تختلف عن مشاعر الفنان التشكيلي التي تتعلق بمعاني الأشكال التي يرصدها ويحاورها، وينْظُم بها تكوين عمله الفني فوق سطح اللوحة؛ ولهذا فإن المشاعر “أداة” كما “الخط و…”، أو بدقة أكثر، هي لغة الفنان الخاصة التي ينطق بها.

– الكاتب يحتاج إلى الشعور الحر الذي يسمح له أن يحلّق بخياله؛ لإبداع ما هو أقرب إلى واقعه؛ لذلك فإن قربه من مكان الحدث يكبله، ويمنعه من تغيير الواقع وناسه وسلوكهم وأشيائه.. في حين أن الهجرة والغربة هما اللذان يحفزان الإبداع السردي والالتزام، وعلى هذا؛ فالبعد المكاني مفيد لزيادة ثراء الكاتب، كما أن الحنين والغياب يخصِّبان الذاكرة ويدعمان جوهر الفن؛ ما رأيك؟

= اختلف إحساسي باللوحة وبشخوصها، عندما كنت أعيش في الحدث ذاته، حيث كانت لوحتي أقرب إلى داخلي من تلك التي أرسمها بعيدًا عنه. أصبحت الآن أعتمد على مشاعر الذاكرة، وهي أقل من الواقع المرئي وانعكاسه المباشر على الإحساس.

– “الحب هو ما ولدنا به، أما الخوف فنتعلمه”، كيف تُعرّف هذين الشعورين، بعد كل الظروف الأليمة وعدم الاستقرار الذي شهدناه، منذ بدء أزمتنا الكارثية؟

= منذ بدء الكارثة في بلدي، أنا لم أتعلم الخوف فحسب، بل عشته ومورس على روحي، بكل أنواعه، وما زال، لكني أقاوم الخوف بالفن، فالفن هو الحب بالنسبة إلي.. الحب الذي من خلاله أستطيع أن أغمر روحي به من خوفها.

– استطاعت الأزمة السورية أن تعطي لكثير من المهمشين ثقافيًا أو سياسيًا، أدوارًا مهمة، لا يحلمون بالوصول إليها، فماذا تقول؟

= ذلك طبيعي، وهو أحد إفرازات الحرب، لكنه لن يدوم، إنما يكون غبارها الذي سيتلاشى عند انتهائها، وعلى الرغم من أثره السلبي في عدم وضوح الرؤية والصورة، لكنه في النهاية يتلاشى، ولا يبقى له وجود.

– لكونك فنانًا تشكيليًا، لمنتجه الفني دور سياسي، ثقافي ووثائقي مهم، هل خروجك من “قلعة الصمت” سورية، دعمَ لديك المبدأ القائل: “الفن قادر على بناء الأوطان واقتحام التراجيديا”؟

= أدوات الفن الرئيسة هي الجمال والحب، فالجمال سلاح من أسلحة مقاومة القبح، قبح الحرب والموت، والحب هو المفهوم الذي يبني الأوطان. عندما يثقل أي إنسان بتعب الحرب والقتل والدمار؛ ينعكس تأثيرها على أفعال ومخرجات الذات لهذا الإنسان، كذلك الفنان ومنتجه الفني الذي يصبح انعكاسًا لتفاعل روحه مع همومه ووجعها الداخلي.

– يُعدَّ اللون من العناصر البنائية المهمة في الفنون التشكيلية، وقد تختلف استخداماته بين فن النحت والفنون التشكيلية الأخرى، وللون مأرب وتأثير رمزي يرتبط والسياق الذي تولّد فيه؛ فالأزرق -مثلًا- في أغلب الأحيان، قد يعني اتساع العالم أو رمزًا للسماء، في حين يرتبط اللون الأحمر من جهة أخرى، بالعنف والمعاناة. الألوان هي جميلة في ذاتها، وهي محملة بطاقةٍ تعبيرية مؤثرة في النفس البشرية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، اشتهر الرسّام الإسباني بابلو بيكاسو بأنه أكثر فناني القرن العشرين الذين رسموا العميان في لوحاتهم، كرمز للجهل أو العجز أو الضعف، خلال ما عُرف بـ “المرحلة الزرقاء”؛ ما الذي يعنيه لك اللون ولا سيما البني؟

= “بقايا غلاية قهوة” مشروع لم ينته، ولن ينتهي؛ لأنه أصبح جزءًا مني ومن أدوات الرسم ببقايا القهوة. القهوة في مجتمعنا ليست مجرد مشروب، وإنما هي جلسة الأصدقاء والأهل والأحبة. ارتبطت القهوة في حياتنا بحميمية الجلسة التي نشرب بها هذا المشروب. ربما كثيرون كانوا يقرؤون أخاديد الفنجان، وما ترسمه القهوة عليها من صور رمزية لحكايات تخص شارب الفنجان؛ فيتكهنون بمستقبله وما سيحصل معه، كذلك هي لوحة القهوة ذات اللون الأحادي، هي قراءة ما يحصل، وما حصل، وليست تكهنًا للمستقبل.

أما عن لونها البني الداكن الذي يشبه لون الأرض، بتدرجاتها اللونية، فربما هذا -أيضًا- ما جذبني إليها. دفء اللون البني وحميميته، يضيفان إلى اللوحة إحساسًا أكبر بتصويرها للواقع، وارتباطها به وبالأرض التي هي الروح بالنسبة إلينا. والفنان التشكيلي عادة يأخذ وقتًا لرسم اللوحة، فهو ليس كفنان الكاريكاتور ينجز عمله مواكبًا للحدث. من هنا بدأت حكايتي وفنجان قهوة، كانت فترة صعبة أن أرى وأعيش كل هذه الأحداث، ولا أستطيع التعبير عن تفاعلها مع روحي، بسرعة رسم لوحة الكاريكاتور، فكانت القهوة بحميميتها هي الوسيلة والأداة التي حاولت من خلالها تصويرَ الحدث اليومي للمعاناة اليومية بلوحة، بعد شرب كل غلاية قهوة، وكانت كل لوحة هي قصة شاهدتها، أو عشتها وعشت تفاصيلها. بعد فترة بدأت تتكدس الأعمال وأصبحت مجموعة كبيرة، وصل عددها تقريبًا إلى 400 لوحة، لم أخرج منها بعد نزوحي من المخيم، والدمار الذي حصل بمرسمي وبمساعدة الأصدقاء، إلا 130 عملًا، وهو ما نجا منها”.

– إذًا، نستطيع الآن أن نعرّف الفن التشكيلي بأنه هو كل شيء يؤخذ من طبيعة الواقع، والفنان التشكيلي هو الباحث الذي يقوم بصياغة الأشكال، آخذًا مفرداته من محيطه. وعليه كانت المدارس الفنية الواقعية الرمزية أو التعبيرية ثم الانطباعية ثم السوريالية التي تجمع بين العقل والخيال، وبين الوعي واللاوعي، بين الذاكرة ونصف حلم، وحرية الصورة التلقائية، لنصل اليوم إلى تجريد كل ما هو محيط بنا عن واقعه، وإعادة صياغته برؤية فنية جديدة، يتجلى فيها حسّ الفنان باللون والحركة والخيال. أين هو فنك وتدرّج مراحله من كل هذه المدارس؟

= عندما أبدأ برسم اللوحة، لا أفكر إلى أي مدرسة ستنتمي، ولكني أبحث عن مفردات تلامس الروح قبل العقل في لوحتي. وأنا إذا أردت أن أحلل أعمالي من الناحية الأكاديمية، وإلى أي المدارس تنتمي؛ أرى أنها تنتمي –ربما- إلى أكثر من مدرسة في الوقت ذاته. كما أن الفن في وقتنا هذا، يجب ألا يؤطر بمدرسة معينة، وذلك لاختلاف المرحلة التي نعيشها عن المراحل السابقة واحتياجاتها. في رأيي الشخصي، أن المنتج الفني والفن التشكيلي، ككل الفنون، في حالة تطور، حسب التطور المجتمعي وتفاعل الفنان معه، بما أنه فن فردي في مراحل بنائه.

في لوحات أنس سلامة -وخصوصًا المرسومة بالقهوة- حضورٌ واضح للأنثى، ويفسر فنَّانُنا هذا الحضور الأنثوي، وارتباطه بالحالة الإنسانية، باعتبار أن “فلسطين أنثى، والمعاناة أنثى، وسورية أنثى”. والأنثى -حسب سلامة- هي “كتلة من الإحساس، نستطيع أن نستدل عليها من خلال كل تفاصيلها، بمنحنياتها وصوتها وعاطفتها ومعاناتها. إنها تختزل كل شيء موجود، ولذلك هي حاضرة في أعمالي”.

شكرًا لك، أنس، فالحياة الجيدة هي الحياة التي تلهمها المحبة وترشدها المعرفة. لن أجرؤ الآن أن أسألك عن رأيك في المرأة وأحاسيسها، وعن آثار الحرب السلبية التي حفرت أخاديد إضافية في شخصيتها، بعد أن بدأت تقاليدنا بحفرها، لذلك، سأنهي حواري معك بآهة متأملة، بعد خيبات أمل متكررة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

سوسن سلامة