أين هو الشعب الذي يريد؟



تبدو اللغة التي يستخدمها المفاوضون، على جانبي طاولات المفاوضات المتعددة والمتنوعة في أماكن وأزمنة مختلفة، لغةً إنشائيةً، لا تحمل أي بُعدٍ سياسي؛ فهي تنحو منحى عاطفيًا، ما زال حتى اليوم غير قادر على فرض صيغة حل، يزعم الجميع أنهم يرغبون في إيجادها. المفاوضون يتحدثون بالنيابة عن الشعب، ولا يتجشمون عناء سؤاله عمّا يريد، ولا إن كانوا منذ سنوات يعبّرون عن إرادته أم لا، فهو شعب غائب مغيّب، يكتفي بأن يكون في هذا المشهد السوري المضطرب ضحيةً، لا أكثر ولا أقل. الشعب الذي أعلن ذات يوم أنه يريد؛ هو اليوم في واد بعيد كلّ البعد عن طاولات المفاوضات، وعن محاضر الجلسات السرية منها والعلنية، وهي بمجملها يتم إملاؤها من قِبل جهات ورعاة ليسوا سوريين أصلًا، ولا يعنيهم -مهما بالغوا في بذل مشاعرهم- حالُ ذلك الشعب الذي بات شتاتًا، يسحقه خط الفقر سحقًا، بعد أن فقدت دولته مقوماتِ الحياة كلها، وباتت نهبًا لصنوف متنوعة من الميليشيات والفصائل، كلٌّ يقسم الغنيمة على هواه أو وفق ما رسُم له.

يتحدث نظام دمشق بلسان الشعب، وهو الذي اعترف مرارًا وتكرارًا أنه يقوم بعملية اصطفاء لإنتاج شعب نموذجي يوافق تطلعاته، في سورية مفيدة يريد إقصاء المختلفين عنها، كي لا يُكرروا إساءتهم ومؤامراتهم، فيما سيظل ما تبقى من الشعب هائمًا على وجهه، لا حول له ولا قوة.

تتحدث المعارضة أيضًا بلسان الشعب، وشعب المعارضة طبعًا مختلف كليًا عن شعب النظام، بالرغم من العناوين العريضة التي ألزمت المعارضة نفسها بتحقيقها، حال أزاحت النظام ووصلت إلى السلطة، لكنها تدرك -قبل أي أحد آخر- أنها إنما تنطلق من شعب الثورة وإليه، وهي لم ولن تجد آذانًا تصغي لخطابها خارج ذلك الإطار، وفي السنتين الأخيرتين لم يعد صوتها مسموعًا حتى لدى جمهور الثورة، وإنما هي مستمرة في عملها، لأن رعاتها ومشغليها يطلبون منها ذلك. اعترف الكثير من قادة المعارضة، في جلسات خاصة بعيدًا عن وسائل الإعلام، أنهم إنما يتلقون أوامر، وأنهم يمتثلون لتلك الأوامر، لأنهم يخشون أن يفقدوا أولئك الداعمين.

الداعمون والرعاة الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية “أصدقاء الشعب السوري” يتحدثون بإسهاب عن الشعب السوري، وكي لا نكون مُجانبين للصواب، فإنهم خلال السنوات الثلاث الأولى كانوا منشغلين كثيرًا بذلك الشعب، وكانوا يتحركون كخلية نحل للتخفيف من “معاناته”، وتزويده بما ينقصه من بطانيات ووسائل تدفئة، حين يندفع الشتاء ليقتلع الخيام في مخيمات اللجوء التي أنشأها أولئك الأصدقاء، ولا تكف وسائل الإعلام عن رصد قوافلهم الخيرية ومساعداتهم الإنسانية، حتى تمكنوا وبدهاء من تحويل واحدة من أكثر الثورات نقاء في التاريخ الحديث إلى مجرد حالة تسوّل وأزمة إنسانية. لم ينس الشعب ثورته، كما تظهر لنا التظاهرات التي تنطلق، كلما هدأت وتيرة القصف، لكن الأصدقاء اليوم توقفوا تقريبًا عن الحديث عن ذلك الشعب، وصاروا يفكرون بجني أرباح استثماراتهم في “المسألة السورية”، يجري الحديث حاليًا، على نطاق واسع، عن برامج إعادة الإعمار، فيما تبقى من سورية ولمن تبقى من شعبها.

الأمم المتحدة ووسائل الإعلام العربية والدولية، كانت تتحدث كثيرًا عن الشعب السوري، كان يمكن أن تتابع نشرة أخبار كاملة مخصصة للحديث، عما يعانيه ذلك الشعب، وعن بطولته الاستثنائية في مواجهة واحد من أكثر الأنظمة قمعًا ودموية. كل شيء تغير الآن، هذا واضح، وليس بحاجة إلى كثير بحث وتمحيص، فقد يمر يوم كامل دون أن تسمع خبرًا واحدًا عن ذلك الشعب، على الرغم من أن المعاناة هي نفسها، ولم يطرأ عليها أي تغيير.

ونحن نقترب من إكمال السنة السابعة، يجري الحديث الآن عن أن الثورة التي أرادها الشعب السوري تلفظ أنفاسها الأخيرة، هكذا بدأ التسويق للأمر، يتم إعادة إنتاج نظام دمشق، فيما تكتفي المعارضة بهز رؤوسها، والقول إن المجتمع الدولي قد خذلها. لكن، وخلافًا لهذا النفَس التشاؤمي، أطلقت مجموعة من الناشطين مؤخرًا حركة سياسية تضع الشعب في المقدمة، وهي لا تريد أن تتحدث بلسانه، تدعي الحركة أنها إنما تريد أن تستعيد الثورة التي سرقتها معارضة قفزت إلى السطح، وارتهنت بإملاءات وتوجيهات، فيما كان المطلب الأول للثورة هو ما يريده الشعب، الشعب يريد. وفي ضفة أخرى دعا عدد من الناشطين والباحثين السوريين من توجهات فكرية مختلفة إلى عقد مؤتمر سوري جامع، بعيدًا عن النظام والمعارضة، سيكون المؤتمر -كما يأمل الداعون إليه- نواة أولى؛ لتأسيس مؤتمر سوري عام، يكون قادرًا على وضع أسسٍ يتفق عليها السوريون، لإنقاذ ما تبقى من بلدهم. لا ندري إنْ كان سيُقيّض لتلك الحركة السياسية الوليدة أو لذلك المؤتمر، الاستمرار والنجاح، لكن ما نعلمه جيدًا أن الحالة السورية ستظل تهوي أكثر فأكثر نحو القاع، حتى لا يعود بالإمكان إنقاذها، ما لم يستعد الشعب لسانَه الذي سرقه المتحدثون الكثر نيابة عنه، وعاد ليقول من جديد: الشعب يريد.




المصدر
ثائر الزعزوع