في الصمت

17 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
5 minutes

دعوني من القيل الكثير حول الصمت، سواء لبس هذا القيل رداء الفلسفة، أو ارتدى جلباب النقد الأدبي، أو أخذ صيغة المدح والذم في الموروث الشفاهي للحكمة. ولستُ بمكترثٍ بصمت المتأملين الذي أشاد به بعض الكتاب. أجل دعوني من هذا كله كي أَجِد الجواب عن السؤال الحقيقي الآتي: لماذا يصمت الإنسان؟

ينطلق هذا السؤال من أن الصمت قرارٌ موعى به، وبهذا المعنى نُعرِّف الصمت بقولنا: الصمت اختيار موقف عدم التعبير بالكلام الصريح، سواء كان كلامًا مكتوبًا أو كلامًا شفاهيًا، إنه السكوت الإرادي.

أنا أخاف؛ إذًا أنا أصمت، وليس الصمت في أي حال من الأحوال علامة الرضا أبدًا.

أنا أخاف؛ إذًا أنا أصمت، تعني بأني لا أريد أن أُصاب بأي أَذًى من سلطة، تُحاسب على الظهور الحقيقي العلني المشفوع بالصوت: صوت القلم أو صوت الحنجرة.

الصمت -والحال هذه- هو الكبت الإرادي، وليس هناك عذاب للنفس كعذاب الكبت الإرادي.

خذ مثلًا العواطف الصامتة تجاه الحاكم المستبد؛ فالكائن الطبيعي الذي يشعر بأي حظ من الحرية يكره بدرجة ما أي نوع من أنواع الاستبداد، وقد تقف قطعان ما وراء الكبش المستبد بكل حب.

من ذا الذي يستطيع أن يُعلن كرهه للمستبد؟ لا أحد طبعًا، إلا إذا كان بمأمن من عسف السلطان المستبد، وقد يظهر الصمت في بعض الحالات في خطاب كاذب، أو سلوك كاذب.

كان الدكتور ناصر لسان الجماعة الحاكمة في دمشق، يُحامي عنهم في منتديات ربيع دمشق، وكنت أعلم ما ينطوي عليه من صمت، وأذكر أني حين أيقظته من نومه وأخبرته بموت حافظ أسد، وكنا في القاهرة آنذاك، صفق وراح يرقص فرِحًا، كان المشهد سرياليًا، راح يرتدي ثيابه الرسمية، وحين سألته إلى أين: قال وهو يقهقه: سأذهب إلى السفارة لأشارك في استقبال المُعزّين.

لقد احتفظ بحجم كبير من الصمت في داخله، ولم يفارقه أبدًا حتى فارق الحياة هو. كان الصمت خوفًا يُعبّر عن نفسه، يقتنص أي لحظة ليتنفس الهواء، ثم يعود إلى جحره مختبئًا عن آذان العسس والمخبرين، وكانت مصايرُ الآخرين الذين خرجوا عن صمتهم ماثلة أمامه.

أي صمت قاتل أمام سلطة الدين التي لا تنحصر برجاله، بل بكل المؤمنين بترسيماته. يختبئ المفكر أو الفيلسوف أمام اللغة المواربة التي يقبع خلفها القول الصامت، إن لغته لغة الصمت القاتل، فالإقامة في الصمت الإقامة بالموت.

كان الشاعر معين بسيسو يُدرك هذه المعضلة الوجودية، حين أعلن:

الصمت موت

فأنت إن نطقت متْ

وأنت إن سكت متْ

قلها ومتْ

إن الصمت موْت، لأن النطق موْت، فالموت بسبب النطق يحمل البشر على الموت صمتًا، ولهذا فإن وعي الشاعر، بأن الموت هو الموت، حمله على الإعلان بأن الموت نطقًا أحسن من الموت صمتًا.

الصمت هنا يجعل من الموجود بليدًا إلى حد لا يعود الوجود ذا إغراء للذات؛ لأن الذات لا تكون ذاتًا إلا إذا ظهرت في الوجود، إلا إذا تعينت تعينًا صادقًا في العالم الخارجي، والذات التي لا تستطيع أن تظهر ليست ذاتًا أصلًا، إنها إمكانية ذات، فالكلمات المضادة للصمت تدلّ على الحياة: التكلّم، النّطْق، التحدّث، القَوْل، الحَكي، الرّوايَة، الإفصاحُ، التعبيرُ، الثرثرة، الصَخب، الصراخ، الصِياح، الضَجيج، ولكن القاموس نسي أن يذكر المفهوم النقيض الأساس لمفهوم الصمت، ألا وهو الثورة، وما الثورة في حقيقتها إلا انفجار الصمت، وظهور الذات إلى العلن، بل إن خروج الذات عن صمتها هو ذاته خروج الذات على صمتها، وخروج الذات على صمتها هو خروج الذات على الجائر الذي حملها على الصمت، وكل ثقافة تمدح الصمت ثقافة موت.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

أحمد برقاوي