الأم العظيمة



ما العمل؟ سؤالٌ لا يُطرَح هنا على الطريقة اللينينية الشهيرة، ولا على أي طريقة أخرى ربما، مشابِهة أو مغايِرة. بل هو أشبه ما يكون بنبعٍ نابع من محض غربة هاشلة ومهشَّلة، موحشة ومتوحّشة تفتّش عمّا يبدّد صقيعها والنزيف. تدور حول نفسها، تدور وتدور متسائلةً: “ما العمل؟!”. ما العمل، في غياب الوطن الأم، والأم الوطن، وسط معمعة اللجوء الشقيّ بوصفي لاجئة سوريّة. بوصفنا لاجئين سوريين؟ لستُ أدري بدقة، لكن قد تكون اللغة الأم أو الأم اللغة.

ما لي ها هنا والآخرين من بني لغتي الأم (العربية)، أو بني اللغات الأخرى، فليفعلوا ما يشاؤون في ما يخصّ سؤال “ما العمل؟”. بالنسبة إليّ، أعتقد أني ما عدتُ أملك شيئًا سوى لغتي الأم، أو أمي اللغة (وهل كنتُ في أي وقت أملكُ غير هذه الأم العظيمة وتملكني؟!). هي وحدها “العمل”، ووحدها الملجأ والبيت والحضن والحب والدفء والصيرورة والصلاة، والحلم. هي ذلك كلّه وأكثر بالنسبة إليّ، خصوصًا إذ تُقرَأ وتُكتَب، أو يجري التكلّم بها كمونولوج فحسب. في الفضاء العام هنا قلّما أتكلّمُها، فبلاد اللجوء هذه لديها أمٌّ لغوية أُخرى، صرتُ أفقه جزءًا لا بأس به منها حتى الآن، بل صرتُ أملكُ بعضًا من مفاتيحها، ربما تؤهّلني إلى ولوج بعضٍ من عوالمها. هكذا، لا يبقى لي سوى القراءة بلغتي، والكتابة بحروفها البديعة. هذه الأم، هي عائلتي، أرتمي على صدرها، تنصت إلى أسئلتي الصامتة وتحتضنني وإياها.

أمي البيولوجيّة فارقتُها هناك مُكرَهة. كذلك أمي الجغرافيّة، وأمي الطبيعة أزورها بين الفينة والأخرى. وحدها أمي اللغة لا تفارقني ولا أفارقها، وتلك هي المفارَقة المذهلة! إنها اللغة التي من طبيعتها أن تكون موجودة، وهي ليست روحًا عادية، بل أراني -إن شئتُ الاستئناس بصديقي ميلان كونديرا- أصرخ: “إنها الحياة في مكان آخر”، تستلقي أحيانًا على سفح صخور بازغة من أرض متشققة بشكل وحشيّ، وأحيانًا أخرى تنكش الإرادة الضامرة والفكر المتثاقل. وفي المشاغبة، “تتعمشق” على حيطان الهوية السرية العميقة الجوانية؛ فتزيل الغشاوة، وتسترجع البصيرة، قبل أن تشقّ الطريق إلى الفجر، ثم تختفي من أجل الحضور الأعم والأشمل والأبهى والأبقى والأنقى.

ماذا يعني أن تكتب أو تقرأ بلغتك الأم، في بلد ليس ببلدك الأم؟ يعني الكثير. أحد المعاني على سبيل المثال، هو العدول عن فعلِ الانتحار، ذلك أن هذه الأم اللغوية العظيمة، سوف تهبّ، مانحةً جلَّ ما عندها من أفكار من شأنها أن تعرقل فعل انتحار أبنائها (أوليست أُمًّا حقيقيّة؟!). سوف تهبّ لكي تحثّ نفسًا منهارة أمام نهر، على استحضار المعنى الحقيقيّ للنهر، بوصفه صيرورةً ووصْلًا وإيقاع حياةٍ فذّ، ومعانٍ أخرى لا يمكننا نحن البشر أن نفقهها؛ فتعدل النفس إياها عن فعل الانتحار، عبْر تحويله إلى فكرة مفكًّر فيها نظريًا، أو مكتوبة فعليًا. فكرة خاضعة للنقاش، وبالنقاش، كما بالتفكّر والتبصّر، تسمو النفس اللاجئة الهائجة الحزينة اليائسة الغاضبة المستنزَفة المنهَكة الباكية المشتاقة الملتاعة المهدودة المسروقة المغدورة المطعونة المخذولة، رويدًا رويدًا فوق مأساتها، وتنشغل عن قتل نفسها، لتتفكر في أنها أكبر من مشكلتها، من كل مشكلة، من كل الاحتلالات المتعاقبة، وأوسع وأعلى وأهم. هكذا، “تحتال” اللغة الأم أو الأم اللغة على الواقع الضيق، المسوَّر، المحدود، الممعوس، المرير العصيب!

مثل كثيرين ربما؛ لجأتُ من شرق هذه الأرض إلى غربها، وفي ذهني تطوف فكرةُ “خلاصٍ” ساذجة. فكرة قاصرة للغاية، حسبما تدلّل التجربة المفتوحة على الجديد دومًا. إنها التجربة نفسها التي من شأنها أن تدفعنا -من حيث ندري أو لا ندري- إلى إجراء مراجعة نقدية مستمرة لنصوصنا السابقة، لكلامنا السابق، ليقينياتنا السابقة ومعتقداتنا، وربما لكل شيء، كمَن يكتب رسالة ويسلّمها إلى ساعي بريد، ثم يعتوره القلق؛ فيهمّ باللحاق به مريدًا استعادة الرسالة. إنها المراجعة النقدية نفسها التي من شأنها أن تفصفص الحيثيات التي طالما دفعتنا إلى أن نلوذ بفكرة “الخلاص”، لتعود وتُرينا أنَّ الخلاص فناء، وأن “المخلّص” الزائف لن يخلّصنا إلا مما نحب ونريد ونحلم، ليُبقي على الخوف فينا، بل ليعيدَ تصنيع ما من شأنه تأصيل الخوف أكثر وتعميقه! يشدّني هذا إلى التأمل في جملة إميل سيوران: “الخلاص يُنهي كل شيء، ويُنهينا”، في كتابه الأول باللغة الفرنسية (موجز التفكيك) 1947.

ربما تحرِّرنا اللغة الأم من فكرة الخلاص التي طالما نسجَتْها في نصٍّ ما سابق، بدءًا من نقْضِها نفسها أولًا، على الطريقة “البِنلوبيّة” مثلًا، حيث تنقض في الليل ما حاكَتْه في النهار، لتبدأ الحياكة من جديد مع مطلعِ نهارٍ جديد. تحدونا، إذاك، الأفكار العنيدة والطازجة، ويأخذنا شعورٌ بأن كل تلك الزخارف الصناعية لن تُرضي عقولًا كعقولنا، في عالم يريدنا أن نُهزَم بالقوة، بأي شكل كان، وبأي طريقة! نكتب أحيانًا، لكي نرحل من جديد، كلّما توهّمنا استقرارًا و”خلاصًا”، أو شعورًا سخيفًا ومبتذَلًا بالأمان، وتصير اللغة مثل ذئبٍ يقاتل من أجل البقاء والحرية، من أجل قوام الوجود والجوهر.

في أحايين أخرى، يبدو لي أنه لا يمكن البوح باللواعج، ولا الانتحاب فرحًا أو حزنًا، بغير اللغة، لأنها في معنى ما، ألياف القلب، وهي امتداد للصوت العميق العتيق في قبالة التدجين وترويض الاعتراض في بلادٍ ليست ببلادٍ أم. وإذ تلفحنا رياح السموم والأخبار السامة في كل يوم، قادمة من الوطن الأم، تكفهرّ حيواتنا، ويعلو أزيز الرصاص في رؤوسنا، وقعقعة السيوف، ونفخ الأبواق، وقرع الطبول، وانفجار البراميل، ونوشك على الصَرَع قبل أن تنتشلنا لغتنا الأم مجدَّدًا في الغربة الماحقة، حتى إنها تغدو بمثابة الفضيلة النابعة عن مقدرة هائلة تحضّ على النهوض أو تتسبَّب في القفز في المجهول بدلًا من الانزلاق البطيء في الهاوية المسدودة أو اجترار القُبح والمأساة. معها قد نربح حربًا، وقد تشرق على الرأس أشعة شمسٍ مزدوجة؛ فتضمحلّ الحدود. ونحن الأشد حاجة إلى أكثر الحيوات إشراقًا وومْضًا وصعْقًا!

ترى هل بغير لغتنا الأم أو أمّنا اللغة يمكننا الشعور بالفجيعة في صرخة طفل مبتور الساقين، من جرّاء برميل متفجّر ألقاه طيران “نظام الأسد” على منزل عائلته في قرية الهبيط في ريف إدلب؟! الطفل عبد الباسط طعان صطوف كان يستغيث بأبيه: “يا بابا، شيلني يا بابا”، فيما الغبار والدخان يملأان المكان. ياااه! ترى هل بغير لغتنا الأم أو أمنا اللغة يمكننا الشعور بالفجيعة في ملامح عبيد آغا الكعكجي، المحامي الذي استُشهِد من جرّاء قصف طيران “التحالف” لمنزله في مدينة الرقة؟! تلك الملامح الرهيبة المدمّاة الذاهلة المذهولة المذهلة التي من شأنها أن تنقل الناظر إليها والممعن فيها إلى عوالم، وعوالم، وعوالم. ياااه! ترى هل بغير لغتنا الأم أو أمنا اللغة يمكننا الشعور بالفجيعة في ألوف، بل ملايين المشاهد والقصص المأسوية اليومية في أوطاننا الأم؟! لستُ أدري!

تُرى هل بغير لغتنا الأُم أو أمّنا اللغة نكون، بوصفنا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، شجرًا وعشبًا ونجومًا؟!




المصدر
علا شيب الدين