“… ربحنا مجتمعًا أكثر صحة وتجانسًا”.. أثرياء الحرب نموذجًا!



لم يكن مُفاجئًا، ولا زلة لسان، ما قاله الأسد، خلال مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين في 20 آب/ أغسطس 2017، حين قال: “خسرنا خيرة شبابنا والبنية التحتية، لكننا ربحنا مجتمعًا أكثر صحة وتجانسًا”. كرّر “نظريته”! غير مرة. سبق له أن قال في إحداها: “النسيج الاجتماعي في سورية هو اليوم أفضل بكثير من قبل”. إنه “نهج” ورثه عن أبيه ضمن ما ورث.. نهج طبّقه على الأرض، قبل أن يُفصح عنه، منذ 18 آذار/ مارس 2011. ها هي الحصيلة غير النهائية: دمّر البشر قبل الحجر.. قتل بالسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة وصواريخ أرض-أرض.. أمَات بالتعذيب المنهجي البطيء، بأساليب يهون معها الموت بالرصاص أو الشظايا أو الاختناق بالكيماوي أو تحت الأنقاض.. أكثر من نصف السوريين انتهوا إما قتلى ومُعاقين ومعتقلين ومخطوفين ومُغيبين ومفقودين، وإما نازحين في الداخل ولاجئين في الخارج.. حطّم الاقتصاد وقاعدته الإنتاجية وبنيته التحتية.. أفقر أكثر من أربعة أخماس السوريين. لكنه ولّدَ وبجدارة فئات جديدة داخل الهرم الاقتصادي-الاجتماعي.. فئات “متجانسة” حقًا فيما بينها، ومع طغمته المجرمة، وأكثر “صحة” طبقًا لمعاييره الخاصة في الصحة.. معايير الإجرام واللصوصية. سُمّيت هذه الفئات تارة “رجال الأعمال الجدد”، وتارة أخرى “أثرياء الحرب”. تلك التسميات غير دقيقة وغير متطابقة مع واقع الحال، ولا يُعدّ شتّامًا مَن يتوخى الدقة ويُطلق عليهم اسم “لصوص الحرب ومجرميها”؛ ذلك أن “رأسمالهم الأولي” هو اللصوصية والإجرام. هذه الحقيقة لم تسمح لرجل مثل رئيس غرفة تجارة دمشق، غسان القلاع، إلا أن يقول: “بعض التجار الحقيقيين خرجوا من السوق، وحل محلهم تجار لا علاقة لهم بالمهنة، جنوا أموالهم من رحم الحرب”، وتابع القلاع، في مقابلة مع صحيفة (تشرين) الحكومية في 18 نيسان/ أبريل 2017، قائلًا: “إن انتهاء دور هؤلاء بعد انتهاء الحرب سيكشفه الزمن لاحقًا”.

من المبكر محاولة رسم لوحة شاملة ومتكاملة لعملية نشوء هذه الفئات وصعودها. يضاف إلى ذلك صعوبة رصد هذه الظاهرة ودراستها، قبل سقوط هذا النظام المجرم. لكن المتداول علنًا بين الناس في جميع المناطق السورية تسمية الحواجز المحلية بـ “حاجز المليون”. يقوم عناصر الحاجز بأخذ “الخوّات” لقاء مرور الناس والبضائع، واحتساب حصة رؤسائهم منها. وظاهرات “التعفيش” والنهب والتهريب معروفة ومكشوفة للجميع؛ ثم تأتي المرحلة الثانية، مرحلة غسل الأموال المنهوبة بطرق شتى، من شراء العقارات والتجارة، إلى تحويل الأموال إلى عملات صعبة وتهريب بعضها إلى الخارج. لكن هناك من لم يبدأ من الصفر مثل عناصر الحواجز الصغار. رجال عملوا واجهات، أو شركاء صغار، لمتنفذين سلطويين كبار، برؤوس أموال ضخمة. لم تكن البداية مع تلك الفئات التي حصلت على الثروة بالقوة الخشنة بواسطة السلاح، بعد عام 2011. فقد سبقها صعود الفئات المعروفة منذ سبعينيات القرن الماضي.. فئات جمعت ثرواتها الطائلة بقوة السلطة الناعمة المتسترة بالقمع الكامن القابل للتحول إلى قمع فعلي من قبل الأجهزة الأمنية، بإشراف رأس هرم السلطة. ولمّا كان من غير المناسب، هنا، استعراض التحولات التي جرت على رأس الهرم الاقتصادي الاجتماعي في سورية، تاريخيًا، سنكتفي بالإشارة إلى بعض الوقائع التاريخية. شهدت الطبقات الاقتصادية الاجتماعية العليا استقرارًا نسبيًا، منذ بداية الانتداب الفرنسي حتى عام 1958. فجميع الانقلابات العسكرية (1949 – 1954) حصرت نفسها بالتغيير السياسي، ولم تستهدف التغيير الاقتصادي الاجتماعي. والسياسات الاجتماعية في عهد الوحدة السورية المصرية ضيّقت الخناق على الطبقات العليا، بإجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، لكنها لم تهز مكانتها بالكامل، بدلالة تمكّنها من فك ارتباط سورية بمصر، والعودة إلى حكم سورية عام 1961. لكن الضربة القاضية جاءت منذ عام 1963 حتى عام 1970، في ذلك الحين حلت بيروقراطية الدولة الجديدة في إدارة الاقتصاد السوري مكان الطبقة التقليدية. بعد عام 1970 ولدت ما سُمّي بـ “البرجوازية البيروقراطية”، لم تلبث أن تشاركت مع بقايا البرجوازية التقليدية أو ما عُرف بـ “البرجوازية الطفيلية”. هذا التشارك أدى إلى صعود “فئات جديدة”، بدأت بالتغول، منذ تسعينيات القرن الماضي، وأضحت “مافيات اقتصادية مالية” سلطوية، تسيطر على الاقتصاد السوري وتنهب خيرات سورية. وبعد ثورة 2011 بدأ صعود موجة جديدة بالقوة العارية، فئات ستتخذ شكل طبقة “اقتصادية ميليشياوية”. سنستعرض حالتين من حالات أثرياء الحرب الجدد، وسنرى كيف تنطبق عليهما صفات “المجتمع الأكثر صحة وتجانسًا”، بالمعايير الأخلاقية! للأسد.

نبدأ قصتنا الأولى مع سامر الفوز من آخرها. نقرأ الخبر: تم التوقيع في دمشق على تأسيس شركة (أمان دمشق المساهمة) بين كلٍّ من شركة دمشق القابضة المساهمة المغفلة، ووقع عنها بشر الصبان محافظ دمشق، وشركة أمان القابضة المغفلة المساهمة، وشركة فوز التجارية، ووقع عنهما سامر فوز، رئيس مجلس الادارة المدير العام، وغايتها الاستثمار العقاري والسياحي والخدمي وممارسة كافة الانشطة المختلفة، برأسمال قدره 18.9 مليون دولار. وستباشر شركة “أمان دمشق” عملها خلال النصف الثاني من العام 2017، حيث ستقوم ببناء واستثمار عدد من المقاسم السكنية والتجارية في المنطقة التنظيمية ماروتا سيتي (بساتين الرازي) في دمشق، كما تتحضر في فترة لاحقة لبناء ثلاثة أبراج تجارية واستثمارية (لاند مارك) بارتفاع يصل إلى 70 طابقًا. وكان الفوز الذي يشغل منصب رئيس مجلس إدارة “مجموعة أمان القابضة”، قد أسس في حزيران/ يونيو 2017 “شركة صروح الإعمار”، باندماج مجموعتي “حميشو الاقتصادية” و”أمان القابضة”، ويستعد لإطلاق معملَين للكابلات والحديد. كما أعلن قبل أيام عن مصادقة الحكومة على تأسيس سامر الفوز شركة (م. ي. ن. ا) للسكر الكريستال المحدودة المسؤولية، برأسمال 25 مليار ليرة (47.6 مليون دولار)، في محافظة حمص. حيث تعاقد مع شركة ألمانية، لتنفيذ بناء معمل سكر، خلال 20 شهرًا، بطاقة إنتاجية تصل إلى 3500 طن يوميـًا. وتشير التقديرات إلى أن تكلفة هذا المعمل تصل إلى نحو 318 مليون يورو. وقبل ذلك كان قد اشترى أصول شركات ومعامل رجل الأعمال عماد غريواتي في سورية، و”شركة حديد حميشو”، في مدينة حسياء الصناعية. لم يكن الفوز معروفًا بين أوساط رجال الأعمال، قبل عام 2012، ولم تكن له استثمارات في سورية، ويُعتقد أن مصدر أمواله إيران، لاستخدامه واجهة للاستحواذ على الكثير من الشركات والعقارات في سورية. بدأ ظهور اسمه عام 2013، بوصفه ممولًا لـميليشيا “درع الدفاع العسكري”، وداعمًا للعمل الإغاثي عبر جمعية “الفوز الخيرية”، وساعيًا لشراء أكبر مساحة ممكنة من الأراضي والعقارات في اللاذقية وريفها. كما يمتلك استثمارات كبيرة في عدد من المدن التركية، بالإضافة إلى استثمارات في الإمارات ولبنان. ظهر اسمه على وسائل الإعلام التركية في العام 2013، عندما تم اعتقاله بسبب جريمة قتل مواطن مصري يحمل الجنسية الأوكرانية، واعترف بقتله لأنه نصب عليه بمبلغ 15 مليون دولار. لكنه خرج من السجن، بعد عدة أشهر، ليثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب.

لم تقتصر قصص أثرياء الحرب على المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد، بل امتدت إلى المناطق الخارجة عن سيطرته. وصلت قصة محي الدين المنفوش، مليونير الحرب الجديد، إلى صحيفة (الإيكونوميست)، ورأت أنه جعل من حصار الغوطة الشرقية “البقرة الحلوب” التي حولته من صاحب 25 بقرة إلى صاحب “ميليشيا”! أبقار، تعدادها ألف بقرة. مع اشتداد الحصار تعذر على منتجي الألبان إيصال منتجاتهم إلى زبائنهم في دمشق، وأدَّى الكساد إلى انهيار الأسعار. اتفق المنفوش مع ضباط في الجيش والمخابرات، بوساطة من بعض تجار دمشق، يقضي بإخراج الحليب ومشتقاته رخيصة الثمن وبيعها في دمشق بضعفي سعرها، على أن يتقاضى الضباط حصة من الأرباح. تطورت تجارة المنفوش، وأصبحت الشاحنات المحملة بالحليب والأجبان تغادر الغوطة بشكل شبه يومي، وتعود محملة بما يلزمه لرعاية قطيع أبقاره ومنشآته، إضافة إلى مواد غذائية أساسية، كالسكر والرز وغيرها من البضائع، وبيعها إلى تجار المفرق في الغوطة الشرقية بأرباح خيالية، حيث كان المنفوش يبيع كيلو السكر بما يعادل 19 دولارًا في الغوطة، حينما كان سعره في دمشق دولارًا واحدًا فقط، وعرف الطريق الذي تستخدمه شاحناته باسم “حاجز المليون”، حيث يتقاضى عناصر الحاجز 5000 دولار عن كل ساعة مرور للشاحنات، كما زادت المساعدات الخارجية من أرباحه، فقد اضطرت منظمات تمويل المخابز والمجالس المحلية إلى الاعتماد عليه، لتحويل العملة الصعبة إلى الغوطة الشرقية؛ فاستفاد من فروقات أسعار الصرف بين داخل وخارج المنطقة المحاصرة. من الصعب تقدير ثروة منفوش، لكنه يحتفظ بميليشيات خاصة قوامها نحو 500 رجل مسلح. وقوة عاملة تُقدّر بنحو 500 1 عامل، يتقاضى كل منهم ما يعادل 250 دولارًا في الشهر. وهذا المبلغ أكبر مما يدفعه قادة الفصائل لمقاتليهم.

لا ينحصر “المتجانسون” مع الأسد في الحقل الاقتصادي، في نماذج التجار ورجال الأعمال! وحسب، وإنما يمتدون إلى داخل الجسد “الاقتصادي الأكاديمي”! الأسدي. ففي مقابلة مع قناة (الإخبارية) التلفزيونية الأسدية، يوم 17 آب/ أغسطس 2017، قال الأستاذ في كلية التنمية الإدارية بجامعة دمشق أيمن ديوب: “إن 1500 رجل أعمال جاؤوا إلى سورية، ليس للسياحة، وإنما لديهم أموال ولديهم استثمارات. ومن الواجب التفكير كيف نأخذ من رجال الأعمال أموالهم، ويتم ذلك عن طريق الاستثمارات”. أليست هذه مطالبة بتشليح أموال رجال الأعمال الأجانب المشاركين في معرض دمشق الدولي عن طريق الاستثمارات. وهل نسي “الأستاذ”، أو تناسى، أن من المفترض أن يتحدث بوصفه أكاديميًا، يستخدم مصطلحات اقتصادية مختلفة عن لغة التشبيح، كأن يطالب بإغراء المستثمرين بمناخ استثماري جاذب، مثلًا. لاقت تصريحات ديوب موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتبروا أن تفكير الاقتصاديين ورجال الأعمال في سورية قائم على كيفية “تشليح أموال المستثمرين”. وذكّر بعضهم بأن هذه الأساليب قد دفعت الكثيرين من المستثمرين إلى الهروب من سورية، وعدم الاستثمار فيها، بسبب تسلط رجال أعمال محسوبين على النظام، ومطالبتهم للمستثمر بالمحاصصة والمشاركة أو بعمولات ضخمة.

تلك الأمثلة القليلة المنتقاة، من ظاهرة التحولات الاقتصادية الاجتماعية التي طرأت بسبب الحرب، قد تعطي بعض ملامحها وسماتها، لكنها لا تغطيها بالكامل. فالظاهرة واسعة ومنتشرة ومبعثرة، ويمكن القول إن المركزية الاقتصادية في سورية قد تضعضعت، كما هي حال المركزية السياسية، وازداد تفكك الطبقات المجتمعية عمقًا وتنوعًا، وتراجع حصر المكاسب الاقتصادية في أيدي الطبقة العليا الجديدة، بانفتاح أبواب الأسواق الجديدة أمام الفاعليات الصغيرة المنتشرة على نطاق واسع؛ إذ إن الظاهرة أسستها شبكات عسكرية-اقتصادية محمية بالعنف المُضمر، والعاري حين الضرورة. فالقادة والممولون للميليشيات الذين يستحوذون على رؤوس الأموال الضخمة والأرباح الكبيرة أعدادهم صغيرة جدًا، قياسًا بأعداد عناصر ميليشياتهم، ولا مصلحة لهم بضبط عناصرهم ومنعهم من ممارسة الأعمال الصغيرة، لضمان ولائهم واستمرار انخراطهم في تشكيلاتهم العسكرية. هذه التركيبة المعقدة تخلق ترابطًا وتبني علاقة بين التجارة والربح، وبين العنف والقتل والخطف والابتزاز والتهديد. لذلك يصبح هذا “المجتمع الجديد”! أكثر “تجانسًا” مع قمة هرم طغمة سلطة الأسد، وبالتالي أكثر صحة بالنسبة إلى مصالحها. وأن يكون سامر الفوز وزملاؤه قتلة ونصابين ولصوصًا، فهم الأكثر صلاحية و”صحة” لمجتمع الأسد الجديد.




المصدر
محمد محمد