‘نيو يورك تايمز: عندما يكتب الخاسرون قصة التاريخ’
18 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2017
تمثال، لجيفرسون ديفيس، في ريتشموند، تصوير، تشيب سوموديفيلا / صور جيتي
زرتُ معسكرًا صيفيًا في غرب روسيا، في تموز/ يوليو 2015. وكان موضوعه “الوطنية العسكرية”، شارك فيه عشرات المراهقين الذين أخذوا يتسكعون في الخيام، ويلعبون المصارعة، ويحفرون على الخشب، ويصنعون الأكاليل، وكانوا يأخذون أيضًا دروسًا في التاريخ. جوزيف ستالين، الزعيم السوفيتي الذي قتل الملايين من المواطنين السوفييت، كان يُذكر هناك باعتزاز.
أخبرني مستشارٌ في وقتٍ لاحق، ونحن نجتمع حول صحن فيه حساء الملفوف: “أيًا كانت وجهة نظرك في ستالين؛ فلا يمكنك إنكار أنَّه كان زعيمًا قويًا”. وأضاف: “فاز ستالين بالحرب، ومكنّنا من الذهاب إلى الفضاء؛ لا يمكنك حذف شخصٍ مثله من التاريخ”.
لم تواجه روسيا الأجزاءَ الأكثر قتامةً من ماضيها، وهو أمرٌ قضيتُ الكثير من الوقت في التفكير فيه كمراسلٍ هناك. ولكن بلدي يواجه مشكلات في ذاكرته أيضًا. خذْ مثلًا الحرب الأهلية؛ إذ يخبرنا المؤرخون أنها قامت ضد العبودية، ولكن ظهرت نسخة مختلفة تمامًا، الشهر الماضي، في مخازن (أبل بيز) في ولاية ديلاوير.
قال جيفري بلومير، رئيس فرع محلي لنقابة أبناء المحاربين القدماء: “من السهل جدًا القول إنَّ الحرب كانت ضد العبودية”. وأضاف: “هذا ما تم تدريسه في المدارس، ولكن هناك المزيد حول هذا الموضوع”. يبدو أنَّ الذاكرة الانتقائية ظاهرةٌ عالمية؛ فكّر في تركيا حيث حدثت الإبادة الجماعية للأرمن. أو اليابان مع سخريتها حول عدوانها، والقتل الجماعي في الصين..
تبدأ كدافع بشري أساسي للانتقام من الهزيمة، أو لتجنب الاعتراف ببعض الفظائع؛ ولكنها أيضًا وسيلة للمساعدة في التعامل مع الحاضر الصعب. ومثل النمو على حلقة شجرة، فإنه يمكنها أن تبقي الماضي خارج الحالة، حتى يتملك بعض من جيل المستقبل الشجاعةَ الكافية ليعيد ترتيبها.
قال غاري باس، أستاذ السياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون: “في معظم البلدان، من المرجّح أن تحصل على نسخٍ مهربة، وقومية للتاريخ أكثر مما تتصارع مع الأجزاء الأكثر قتامة من ماضيك، والولايات المتحدة ليست استثناءً”. في الولايات المتحدة، ما تزال الحرب الأهلية “التجربة الأكثر إثارةً للجدل، والتي لم يحلّها الأميركيون على الإطلاق”، وفقًا لمؤرخ في جامعة ييل، ديفيد بلايت الذي يقول: “الحرب الأهلية مثل تنين نائم. إذا وكزته بقوةٍ كافية؛ فإنه سيرفع رأسه، ويلفظ النار”.
وهذا، جزئيًا، لأنّه سُمِحَ للخاسر بتفسيره الخاص، أما الجنوب الذي يواجه خسائر فادحةً في الأرواح، والدمار الشامل، وفق معيارٍ أوروبي، فقد كتب تاريخه الخاص للحرب. لقد أضفى على نفسه صفة مستضعفٍ تمَّ اجتياحه من قبل الأعداد المتفوقة في الشمال، ولكن قضيته، في النضال النبيل من أجل حقوق الدول/ الولايات، كانت عادلةً، بينما بحث الشمال في الطريق الآخر. وكانت النخب الشمالية أكثر اهتمامًا بإعادة إقامة الروابط الاقتصادية أكثر من اهتمامها بالحقوق الدستورية للسود. ماتت الإرادة السياسية لإنجاز إعادة البناء.
وقال تشارلز ديو، وهو مؤرخٌ في كلية ويليامز، يصف كتابه (رسل الانفصال) حججَ المتفوقين البيض التي تدعم قضية الجنوب لمغادرة الاتحاد، قائلًا: “إنَّ فكرة تكريم الكونفدرالية، والتضحية التي قدّمتها أسرتك، أصبحت جزءًا مما تعلمناه في المدارس”. ولتصحيح السجل، قدم السيد ديو محادثاتٍ حول كتابه، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كجزءٍ من جهود دائرة المتنزهات الوطنية، لتوضيح أسباب الحرب. بعض الجماهير تراجع مرةً أخرى، قائلًا: “عائلتي لا تملك العبيد، فكيف يمكن أنْ يقاتلوا من أجل العبودية؟”. وقال السيد ديو: “أنا لا أحاول أنْ أشوه أسلافكم. إنني أحاول أنْ أشرح: لماذا جاءت الحرب، وأطلب من الجميع النظر في القضية بعقلٍ مفتوح”.
في روسيا، اختنق الناس بالذاكرة، بينما كان الاتحاد السوفيتي يتهاوى، غمرت خطايا الماضي الحاضر، حيث كتبت الصحف عن القمع السوفيتي، وبدأ الباحثون بتوثيق عمليات القتل السياسي. كلُّ هذا، وبينما يفقد الروس وظائفهم، ومدخراتهم، واحترامهم في العالم، وكرامتهم؛ لم يتمكنوا من خسارة ماضيهم. وهكذا أصبح ستالين الرجلَ الذي قاد الاتحاد السوفييتي إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، وحولَّ أمةً فلاحية إلى أمةٍ صناعية.
ألمانيا هي الاستثناء؛ استغرق الأمر جيلًا، ولكنَّ المجتمع الألماني واجه ماضيه النازي، وبرز كثقافةٍ ديمقراطية نموذجية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى الطبيعة المتطرفة للنظام القومي الاشتراكي، ودمار الحرب التي جلبها. كان على الألمان أنْ يتكيفوا مع المحرقة، ربما كان النظام النازي قد تخطى الاكتئاب، لكن وحشيته المتزايدة لم تترك أيّ صفة قيمة.
وقال تشارلز ماير، وهو أستاذ في تاريخ القرن العشرين في جامعة هارفارد: “في الولايات المتحدة، كان الرقُّ جزءًا لا يتجزأ من نظامٍ دستوري، قدّم على الأقل لفظيًا حقوقًا عالمية”. وأضاف: “إنَّ القضية الألمانية ليس لها ما يعادلها”.
ولكن في حين تمَّ محاكمة كبار النازيين مباشرةً بعد الحرب، لم يتصدَ تيار المجتمع الألماني السائد تمامًا للجرائم حتى الستينيات. كان هناك تحولٌ سياسي إلى اليسار، بحيث شجَّع الشباب الألمان الذين طرحوا أسئلةً صعبة حول ماضي أهاليهم. حتى اليوم، لا توجد نصبٌ تذكارية رئيسة لنحو نصف مليون ألماني توفوا في حملات قصف الحلفاء على هامبورغ، ودرسدن وغيرها من المدن؛ لأن ذلك سيعدّ تأكيدًا على التكافؤ.
في السنوات التي تلت الحرب مباشرةً، كان المجتمع الياباني في الواقع متقدمًا على المجتمع الألماني، من حيث مواجهة ماضيه، كما قال إيان بوروما، مؤلف كتاب (ثمن الذنب: ذكريات الحرب في ألمانيا واليابان). وكان لليساريين صوتٌ قوي في وسائل الإعلام والجامعات التي يشجعها الليبراليون في الاحتلال الأميركي، والتاريخ الذي يجري تدريسه بدأ يتصارع مع الفظائع التي ارتكبتها اليابان، في زمن الحرب، ضد الشعوب الآسيوية الأخرى؛ لكن هذا الإدراك المبكر تعثر في السياسة؛ فالولايات المتحدة، جنبًا إلى جنب مع الليبراليين اليابانيين، قرروا أنَّ المشكلة هي نزعةُ العسكرة اليابانية، وقدموا للبلاد دستورًا سلميًّا. وهذا ينفّرُ اليمين، مما تسبب في الخلاف الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.
وقال السيد بوروما: “في اليابان، أصبح التاريخ مسيّسًا”؛ كلما سمعت يمينيًّا يقول: “كل شيء أسطورةً يسارية، نحن لسنا مذنبين كما يقول الناس”، فاعلم أن ما يقوله حقًا هو “نحن نريد مراجعة الدستور، ونظام ما بعد الحرب الذي فرضته الولايات المتحدة”.
وقد فاجأت الحجة، حول التماثيل الكونفدرالية، مؤرخين مثل الدكتور بليت الذي درَّس الحرب لعقود. إنها لحظةٌ للتعليم العام لا مثيل لها، ولكن مع المخاطر. عندما يحصل خاسر التاريخ على تحديد القصة، فإنه يمكن أنْ يخلق الصدامات مع الحلفاء، مع الخصوم أو حتى مع مواطنينا. ولكن ذلك يمكن أن يكون مفاجئًا، الاندفاع العاطفي لتصحيح ذلك. يقول المؤرخون إنّ التماثيل الكونفدرالية يجب إزالتها ببطء، وبالتشاور، ويجب ألا تدَّمر في منتصف الليل.
وقال: “إنَّ هذا الغضب المفاجئ هو للتخلص من المعالم التي تنتهك غرائزنا كمؤرخين”. “كنْ حذرًا، وتمهل. إذا تمَّت إزالتها؛ فدعونا نحافظ ونشرف عليها. هذا جزءٌ من المشهد التاريخي لدينا. أما أن ندمرها فقط، فليس هذا أمرًا تربويًا”.
اسم المقالة الأصلي
When History’s Losers Write the Story
الكاتب
صابرينا تافيرنايس، Sabrina Tavernise
مكان النشر وتاريخه
نيو يورك تايمز، The New York Times، 15/9
رابط المقال
https://www.nytimes.com/2017/09/15/sunday-review/civil-war-statues-losers.html?mcubz=0
ترجمة
أحمد عيشة
أحمد عيشة