مقاربة للحرب في سورية



أفضت عسكرة ثورة السوريين السلمية ضد النظام الشمولي إلى حرب مُدمّرة؛ جلبت الكوارث والمآسي على سورية ومواطنيها، وقد أضحت هذه الحرب المتواصلة منذ ما يزيد عن ستة أعوام، في سائر المناطق السورية، حربًا بالإنابة أو بالوكالة (Proxy War)، وفق ما صنّفتها لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية، وقد أشارت في تقريرها السادس الصادر في 16 آب/ أغسطس 2013 بشكل واضح إلى أنه “… يعتقد كلٌّ من المجموعات المسلحة الحكومية، والمجموعات المسلحة المناهضة للحكومة، أن باستطاعتهما تحقيق نصر عسكري. ويوفر مؤيّدو كلّ منهما غطاءً سياسيًا لهما، ومساعدة مالية ومعدات عسكرية؛ ما يحول النزاع السوري إلى حرب بالوكالة عن مصالح إقليمية ودولية”.

كان يتعين على المجتمع الدولي المسارعة إلى التدخل الدولي الإنساني في سورية، وفق مقتضيات الحق (القانون) والأخلاق، ومن منطلق الوفاء بالتزاماته الدولية المتمثلة بواجب الحماية؛ بما يفضي إلى وقف المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قوات النظام وميليشياته وسائر الميليشيات والجماعات المسلحة بحق المدنيين. وقد تولد اعتقاد راسخ لدى السوريين، في معرض تفاقم وتيرة الحرب وتبعاتها المأسوية على المدنيين، بأن المجتمع الدولي لن يُسلّم باستمرار الفظائع والجرائم المرتكبة بحقهم، وأنه سيُسارع إلى التدخل من أجل نجدتهم وحمايتهم من الفظائع والجرائم التي ارتكبها النظام ولاحقًا المجموعات والميليشيات المسلحة بحقهم؛ إلا أن آمالهم سرعان ما تبددت من جرّاء تقاعس المجتمع الدولي عن التدخل لحمايتهم من تبعات الحرب، بالرغم من ازدياد مستوى وحدّة العنف والقتل والدمار.

بموازاة التقاعس الدولي المقصود عن الوفاء بالتزاماته تجاه ملايين الأبرياء، ممن هم بأمس الحاجة إلى الحماية، كانت مختلف القوى الكبرى والإقليمية تتعاطى مع الحالة السورية من زاوية مصالحها السياسية، وفرض مناطق نفوذ، وتحقيق مكاسب اقتصادية، متجاهلة الاعتبارات القانونية والإنسانية؛ وتأسيسًا على ذلك، لجأ العديد من هذه القوى إلى تأجيج القتال، بين قوات النظام المدعومة بعشرات الميليشيات المحلية والأجنبية، وبين الميليشيات والجماعات الإسلامية التي تؤازرها ميليشيات تضم آلاف المقاتلين “الجهاديين” من جنسيات مختلفة؛ وحولت الصراع إلى حرب بالإنابة، بما يستجيب لمصالحها.

تؤكد الوقائع والأحداث على أن الصراع في سورية انتقل إلى طور الحرب بالإنابة، في معرض الصراع بين القوى العظمى والإقليمية على فرض نفوذها، من خلال توفير الدعم السياسي والعسكري لكل من القوات المحسوبة على السلطة والمجموعات المسلحة المناهضة لها، حيث إنها تمدها بالسلاح والمال، وتتحكم بمسار الأحداث بحكم استئثارها بسلطة اتخاذ القرارات. ومن المفارقات، أن أصحاب المصلحة الدوليين والإقليميين الذين يدفعون ظاهريًا من أجل التوصل إلى حلّ سلمي للحرب، هم أنفسهم يواصلون تغذية التصعيد العسكري. (تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية، 11 شباط/ فبراير 2016).

الحرب بالإنابة أو بالوكالة هي المشاركة غير المباشرة في صراع من قبل أطراف ثالثة، تتولى لعب دور الرعاة والمحرضين؛ بغية التأثير على نتائج الحرب بما يتوافق مع مصالحهم وأهدافهم الاستراتيجية، وهي بمنزلة بديل عن سياسة الانخراط الفعلي والمباشر في الحرب، حيث يلجأ الرعاة والمحرضون إلى استخدام وكلاء محليين أو دوليين، لتحقيق انتقال سياسي كبير، داخل الدولة التي تدور على أراضيها الحرب، لصالح الدول والجهات الراعية؛ وبالتالي عرقلة مشاريع دولة أو دول أخرى، والمساس بمصالحها وإضعافها عسكريًا”. ويتمثل دور الرعاة والمحرضين في مساعدة الوكيل/ العميل (الذي يُحارب لأجل الراعي) لفترة قد تمتد بضعة أشهر أو سنوات طويلة، يتخللها إغداق الراعي على الوكيل المساعدات المالية، وإرسال الأسلحة، وتدريب العسكريين، وتوفير الدعم السياسي والتقني؛ وبالتالي فإنها وسيلة مريحة للراعي، لتحقيق أهداف استراتيجية ومصالح سياسية واقتصادية؛ نظرًا إلى خلوها من التكاليف البشرية والمادية التي يستوجبها التدخل العسكري المباشر.

بالرغم من تصريحات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأن الولايات المتحدة لن تجعل من سورية ساحة حرب بالوكالة، بينها وبين روسيا؛ إلا أن كلا البلدين يسعى لتعزيز نفوذه في الشرق الأوسط والعالم، من خلال تأجيج الصراع في سورية ودعم كل منهما لوكلائه المحليين. لكن بدأ يتضح أن الحرب بالوكالة في سورية تنطوي على تعقيدات، نظرًا إلى تعدد الجهات والقوى الدولية والإقليمية التي ترعى الوكلاء (العملاء) المحليين من السلطة والمعارضة، وتقدم لهم مختلف أشكال الدعم السياسي والعسكري والمادي والمعنوي، في سبيل تأجيج الصراع وإطالة أمده. وفي حين أن هنالك رعاية ظاهرة ومعترف بها من قبل جهات دولية وإقليمية، إلا أن هنالك رعاية مستترة غير معترف بها من قبل رعاة آخرين. وفي كل الأحوال، يتمثل دور الرعاة بتوفير مختلف أشكال الدعم المباشر وغير المباشر للمتحاربين، وأحيانًا التدخل العسكري على الأرض، في حال اقتضت الضرورة ذلك.

وقد تعمدت الدول الراعية للمتحاربين استغلال نفوذها على الوكلاء، من أجل إجهاض الطابع السلمي للثورة السورية، وإقصاء الحركات والفاعليات والناشطين السلميين، ممن يناضلون في سبيل إقامة نظام ديمقراطي يقوم على التعددية والعدالة والمساواة، وأقدموا على ملاحقة قادتها واعتقالهم وتغييبهم وقتلهم. لكن للحرب بالوكالة عواقب خطرة على الوكلاء؛ لأنهم عرضة لتلاعب الدول الراعية بهم، وبما في ذلك التخلي عنهم وهجرهم، وسحب كافة أو بعض أشكال الدعم المقدم لهم، على غرار توقف الولايات المتحدة عن تقديم الدعم العسكري للجيش السوري الحر.

إن الحالة السورية باتت تستدعي، من المجتمع الدولي والقوى الكبرى والإقليمية المتنفذين في سورية، التصرفَ وفق ما تمليه القوانين الدولية والأخلاق والتدخل الدولي الإنساني، لوقف الحرب في سورية ومحاسبة المجرمين. ولكي يكتسب هذا التدخل القوة والمشروعية، يتعين أن يتم وفق قرار يصدره مجلس الأمن، يقتصر على حماية المدنيين، ووقف الحرب، وتفكيك كافة الميليشيات المسلحة، ومساءلة كل من هو ضالع بارتكاب جرائم خطيرة أمام محكمة الجنايات الدولية، والمساعدة في إعادة بناء سورية، بعيدًا عن تحقيق أي مصلحة للدول المتدخلة.




المصدر
نزار أيوب