الجيش الوطني الموحد… الواقع والطموح



استجابة لدعوة أطلقها المجلس الإسلامي السوري، بداية شهر آب/ أغسطس الماضي، أُعلن عن تشكيل جيش وطني موحد، انضوى تحت لوائه (25 فصيلًا عسكريًا)، وقد أُسندت وزارة الدفاع في هذا التشكيل الجديد إلى السيد جواد أبو حطب، وهو الرئيس الحالي للحكومة السورية المؤقتة.

واقع الحال، أن هذه الخطوة –على الرغم من كونها مطلبًا ثوريًا شعبيًا– أثارت وتثير العديد من التساؤلات، حول توقيتها والآليات التي تمت من خلالها، ومن ثم الأهداف الكامنة وراءها. إذ منذ أن بدأت تتشكل نواة الحراك العسكري في سورية، أواخر العام 2011، ومنذ أن بدأت تتوالى انشقاقات الضباط الشرفاء عن جيش نظام الأسد، كانت آمال جميع الثوار تتطلع إلى تشكيل كيان عسكري موحّد ذي بنية تنظيمية متماسكة وقيادة عسكرية مهنية، تكون ممثلة للجانب العسكري من الثورة، إذ من شأن كيان كهذا -لو وُجد- أن يَحول دون تعدد الفصائل وتشتتها واختلاف توجهاتها، وبالتالي يكون هذا الكيان هو الحصن الذي يمنع ظهور حالة الفوضى العسكرية وسيلان السلاح واستنزاف الأرواح والدماء دون طائل. ولكن –كما هو معلوم– لم يحصل شيء من هذا، على الرغم من توالي النداءات وعشرات بل مئات المبادرات التي أُطلقت لهذا الغرض، ولعلّ أبرز العوامل التي حالت دون توحيد قوى الثورة العسكرية تكمن فيما يلي:

1 – يؤكد لنا استقراء مجمل الحركات الثورية الشعبية في العالم أن الثورة تنطلق من حالة الفوضى في الأصل، ثم تنحو باتجاه الانتظام كلما تقدّمت زمنيًا، إلّا أن الثورة السورية انبثقت من الحالة العفوية، ثم اتجهت سيرورتها نحو المزيد من الفوضى، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل على معظم المستويات، وذلك لأسباب ليس هذا سياق بحثها.

2 – عدم تبلور رؤية وطنية واحدة ومتجانسة، لدى معظم مقاتلي المعارضة، وأعني بذلك غياب الوعي الحقيقي بطبيعة التغيير المنشود في سورية؛ ما أدى إلى تعدد الرايات والمقاصد والأهداف.

3 – هشاشة الكيانات الرسمية للمعارضة السورية (المجلس الوطني – الائتلاف)، وعدم قدرتها على حيازة شرعية حقيقية من الثوار السوريين، جعلتها غير قادرة -منذ انطلاقة الثورة وحتى الآن- على أي تفاعل جوهري لا مع الحراك العسكري ولا السياسي في الداخل السوري، كذلك لم تتمكن من إقامة جسور متينة، بينها وبين أطياف الثورة؛ الأمر الذي جعل الفصائل العسكرية تقاتل على الأرض، دون أن يكون قتالها منوطًا بمشروع سياسي وطني تسعى إلى تحقيقه.

4 – انزلاق العديد من الفصائل العسكرية نحو الأسلمة، سواء بوعي أو بدون وعي، أدى إلى اصطفاف تلك الفصائل شيئًا فشيئًا في معسكر التطرف؛ ما أدى إلى انقلاب الأدوار والأهداف معًا، فبدلًا من أن تكون هذه الفصائل أو القوى نصيرة للسوريين في نضالهم من أجل الخلاص من العبودية والظلم، أصبحت مصدرًا لقهرهم وإذلالهم، بل ساهمت في تعزيز قوّة ونفوذ أعداء السوريين.

5 – قدرة المال السياسي على اختراق الحراك العسكري، وكذلك قدرة أصحاب هذا المال على استثمار وتوجيه النشاط الثوري، في خدمة مصالحهم الشخصية أو الفئوية المحددة.

6 – النفوذ الإقليمي والدولي الشديد، ومنذ وقت مبكر، في مفاصل الثورة السورية، كان له الدور الحاسم في استثمار الحراك العسكري وفقًا لمصالحه وأجنداته، إلى درجة بات فيها المموّل الإقليمي أو الدولي هو الموجه الحقيقي لنشاط الفصائل العسكرية على الأرض، ومع استمرار تضارب وتصارع المصالح الإقليمية والدولية على الأرض السورية، فإن توحيد البندقية السورية يغدو ضربًا من المحال، نظرًا إلى تبعيتها المطلقة للخارج.

إن الوقوف عند هذه العوامل ليس بالأمر العسير، وهي ليست استنباطات قصية بحاجة إلى مزيد من التأويل والتحليل، بقدر ما هي ظواهر باتت مألوفة لجميع العاملين والمتابعين للشأن السوري، ولكن على الرغم من نصاعة المشهد وجلاء علله، لم يكن بمقدور أي فاعلية ثورية عسكرية أو سياسية وطنية أن تعمل على إزاحة أيٍّ من هذه الكوابح التي أعاقت كافة الجهود الرامية لتوحيد البندقية الثورية السورية، علمًا أن الظروف السياسية والميدانية كانت أكثر مثالية لمسعًى كهذا، مقارنةً بالظرف الراهن، إذ إن 65 بالمئة من الجغرافية السورية كانت خارج سلطة نظام الأسد، في الفترة الواقعة ما بين 2012 وأواخر العام 2013 ، كما أن التيارات الإسلامية المتطرفة كـ (داعش) ومشتقاتها لم تكن قد توغلت بالأرض السورية آنذاك، فضلًا عن أن روسيا (المنقذ الحقيقي لنظام الأسد) لم تكن لها قوات عسكرية جوية في سورية، كما أصبح عليه الحال، بعد 15 أيلول/ سبتمبر 2015. يُضاف إلى ذلك الرأي العام الدولي الذي كان يحتفظ بالمزيد من القناعة بشرعية الثورة السورية وعدالة قضية السوريين. إلّا أن كل هذه الظروف المواتية لا يمكن الاستفادة منها، مع استمرار وثبات العوامل التي أشرنا إليها آنفًا.

بعد هذا الاستجلاء السريع للحالة الفصائلية؛ من حقنا جميعًا أن نتساءل: ما الذي يجعل دعوة المجلس الإسلامي السوري فكرة مُستجابة بهذه السرعة والسلاسة؟ سؤال ربما يوحي بالشك من حيث الظاهر، ولكن أعتقد أن الشك بات له ما يبرره لدى السوريين، حيال وطنٍ يتناهبه جميع الأغراب، وينهش من أحشائه الصديق قبل العدو، وما يعزز مشروعية هذا التساؤل أيضًا هو أن سيرورة الصراع في سورية ليست في صالح الثورة:

1 – استعادة نظام الأسد لقسم كبير من المناطق والبلدات المحررة.

2 – قدرة روسيا على استيعاب معظم القوى العسكرية الكبرى في سورية (سواء بالاستهداف العسكري أو الاحتواء من خلال الهدن والاتفاقات المحلية)، وكذلك قدرتها على تجريد بعض الفصائل الكبرى من قوتها العسكرية، من خلال ترتيبات واتفاقات إقليمية (روسيا – تركيا – إيران)، ثم نجاحها في تحييد مسار جنيف وإبقائه غطاء شكليًا فقط، واستبداله بمسار أستانا الذي انبثقت عنه فكرة (المناطق منخفضة التصعيد)، وكذلك أفلحت في إقناع الجانب الأميركي بإطلاق يدها في استئصال جميع البؤر الثورية من فصائل الجيش الحر، تحت ذريعة محاربة الإرهاب.

3 – وقوع الأرض السورية تحت تقاسم نفوذ دولي وإقليمي، ما يجعل سورية بلدًا مقسّمًا، ربما لم يتم شرعنة هذا التقسيم دوليًا، ولكن من الناحية الفعلية نجد أن نظام الأسد وروسيا و(قسد) مدعومة من الأميركيين بالإضافة إلى (داعش) و(النصرة)، هذه القوى تسيطر على الجزء الأكبر من سورية، وما تبقى من الأرض المحررة يتواجد في قسم منها قوات (درع الفرات)، والقسم الضئيل المتبقي تتواجد فيه بعض فصائل الجيش الحر التي لم تعد تملك الكثير من خياراتها الذاتية. وإزاء مشهد قاتم كهذا نقول: ما الذي تبقى من الأرض السورية المحررة، لتنطلق منها وزارة دفاع جواد أبو حطب؟ والسؤال الأهم: هل سيكون لهذا الجيش الوطني قراره وإرادته الوطنية المستقلة الرامية لتجسيد تطلعات السوريين بإسقاط نظام الأسد وبناء دولة القانون والمواطنة؟ وهل سيكون بمقدور هذا الجيش الوطني الوليد اختراق كل التفاهمات الدولية والتموضعات العسكرية الراهنة على الأرض السورية وتجاوزها بغية العمل، وفقًا لمشروع وطني سوري منبثق من إرادة السوريين، وليس وافدًا عليهم من الخارج؟ وكذلك أيضًا، هل من جهات إقليمية أو دولية داعمة لهذا المشروع؟ وهل دعمها يكمن حول تمكين السوريين من الدفاع عن قضيتهم أم سيكون هذا الجيش الجديد احتواءً غير مباشر لما تبقى من المقاومة المسلحة، لتكون السيطرة عليها أكثر سلاسة وسهولة؟ وأخيرًا هل سيكتفي المجلس الإسلامي السوري بالاستجابة لهذه الدعوة أم سيكون له دور في تحديد آليات تشكيل وعمل وأجندة هذا الجيش الوطني؟

أسئلة –بلا شك– ستبدو مزعجةً للقائمين على هذا المشروع، ولكن مصدر شكوكنا وقلق تساؤلاتنا مبعثه الوحيد هو أن مشروع الجيش الوطني الموحد الذي يسعون إلى تشكيله، كان -وما يزال- محطّ آمالنا ومسعى وطنيًا نبيلًا نطمح إلى رؤيته، ليكون وفيًا للأرض والدم، لذلك نحرص على أن ينهض نهوضًا سليمًا، وعلى حوامل سليمة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.




المصدر
حسن النيفي