الفنانة السورية مي سكاف: نريد دولة مدنية لا يحكمها بشار الأسد وأعوانه



هي الفنانة السورية التي رسمت ملامح امرأة لا تهادن الاستبداد والقهر، منذ إطلالتها الأولى على الشاشة الصغيرة في مسلسل (العبابيد)، وهي الإنسانة الحرة التي وقفت مع ثورة الشعب السوري منذ بدايتها، وقالتها بجرأة من قلب دمشق، إنها لا تحب أن ترى صور الرئيس أينما نظرت، ولا تريد لابنها أن يعيش في بلد يحكمه ابن بشار الأسد. هي المثقفة الثائرة التي آثرت البقاء في سورية على الرغم من اعتقالها مرتين، ومنعها من العمل والسفر والاستيلاء على منزلها، وتخريب ونهب مسرح “تياترو” الذي أسسته في مطالع القرن الحالي. وهي اللاجئة التي لم تتوقف عن العطاء الفني، لفضح جرائم النظام السوري وصمت المجتمع الدولي عليها، هي مي سكاف “صوت الحق”، كما وصفها إبراهيم القاشوش في ساحة العاصي، قبل أن تعتقله أجهزة الأمن، وتقتلع حنجرته وروحه. معها كان لي شرف الحوار حول نضالها وتجربتها الفنية في بلدان اللجوء.

– أبدأ من الدور الأخير الذي قمتِ به في فيلم (سراب)، المرأة اللاجئة في باريس التي تحلم بأن تصبح رئيسة جمهورية في العالم العربي، وأسألكِ ما المتغيرات التي ينبغي العمل عليها في الثورة، كي يصبح هذا الحلم ممكنًا؟

= لا أريد أن أبيع أوهامًا، دورنا أن نبقى ثابتين على موقفنا، وأن نفهم أن ثباتنا ليس شخصيًا، وإنما يعوّل عليه الكثيرون، فهناك الكثير من السوريين الذين لا يزالون مضللين بادعاءات النظام، حول المؤامرة الكونية التي تستهدف البلد. ثباتنا ليس ترفًا ولا فذلكة مثقفين، أو أناس لم يعيشوا الثورة. نحن جزء من الحراك الثوري، عشنا القصف والوجع والدم الذي هُدر، عشنا مختلف الضغوط والسجن. نحن جزء من أناس أرادوا أن يكون لهم صوت، وصوتهم شكّل خطرًا على النظام الذي أثبت همجيته بكل الأساليب، حتى الصوت العلماني اليساري غير المسلح، كان يشكل خطورة عليه، ولذلك أخرج الإرهابيين من السجن، في السنة الثانية من الثورة، حتى يقول للعالم “أنا أحارب الإسلاميين والمتطرفين”. أكبر دليل على كلامي هو السؤال الكبير: أين هو عبد العزيز الخيّر وخليل معتوق؟ أين يختفي الناشطون السلميون؟ أكبر دليل أن ضابط التحقيق هددني، وأنا في فرع الأمن، بأن العصابات المسلحة ستقتلني، قال: “ثمنك رصاصة، ولن تكون منا، بل من العصابات المسلحة”، قالها بكل صراحة ووقاحة.

صحيح أننا تهمشنا، وكل منا أصبح في بلد، وأغلبنا عاجز عن فعل أي شيء، سوى أن يجلس ويستمع إلى الأخبار، لكن يجب أن يبقى موقفنا ثابتًا من أجل الشهداء، ومن أجل الذين يعانون -حتى اللحظة- تحت القصف والكيماوي في الغوطة، أو في حماة وريف حلب، هؤلاء ضحايا النظام ويعرفونه جيدًا، أما الذي لا يعرفه، ذلك الشخص الرمادي فهو -أيضًا- ضحية. ومن جهتي، لا أستطيع أن أتخلى عن أي كلمة قلتها، أو أن أبتعد عن أي موقف اتخذته، لا أستطيع أن أتغيّر، حتى إنْ خسرت كل شيء، وبالفعل أنا خسرت كل شيء، هذه ليست نزعة هوائية، إنما موقف ثابت، وأعتبرها خيانة كبيرة أن نضعف الآن، ولو أنه ليس لنا الكثير من التأثير، لأن ما يحدث أكبر بكثير منا.

– الثورة هي مشروع بناء دولة ديمقراطية، يتساوى في ظلها الجميع، فأين تضعين قضية المرأة في سلم أولويات الثورة السورية؟

= الحقيقة أني طوال حياتي كان لدي مشكلة مع النسوية، وكنت أخوض نقاشات كثيرة، مع صديقتي مي الرحبي، ضد مفهوم النسوية والجندرة؛ لأني أرى أن فكرة المواطنة تشمل حق المرأة والرجل بالتساوي، وكنت أُحسب مقصرة إزاء النساء الرائعات اللاتي كنّ يدافعّن عن قضية المرأة، مع أن أمي عانت طوال حياتها من قانون ذكوري ظالم بخصوص الإرث، لأنها كانت مسيحية وتزوجت من مسلم، وكان وضعه المادي جيدًا حين توفي، وبسبب القانون الجائر، حاول أهله أن يفرضوا وصايتهم على أمي وعلينا، كنت صغيرة، وكان ينبغي أن تعلمني هذه التجربة أن ثمة قهرًا قانونيًا ذكوريًا وقهرًا اجتماعيًا، وأنه ينبغي أن نهتم بحقوق المرأة، لأن القانون ذكوري ومن وضعه ذكر والقاضي رجل، لكني كنت أتساءل دومًا، قبل الثورة ومن بعد قيامها: من منا لم يتأثر بهذا النظام المجرم المستبد والفاسد؟.

أرى أن هناك قضايا وأوليات كثيرة، وقضية حق المرأة تعادل –تمامًا- حق الإنسان بالحياة وبالديمقراطية وبإسقاط هذا النظام. أعتقد أنها قضايا متشابكة، ويجب وضعها في سلة واحدة. بمعنى أن شخصية مثل فاتن، امرأة فلسطينية متدينة، تقود سيارتها وتزرع الأرض لتطعم أربعمئة شخص في الغوطة الشرقية، هذه المرأة يجب أن تُولى أهمية خاصة، وتدرّس تجربتها بعد سقوط النظام.

– قبل عام كدتِ أن تقدمي نفسكِ فريسة للنمور في برلين، حتى توقظي ضمير العالم إزاء مسألة اللاجئين، وحين لم تسمح لك الشرطة بذلك، ألقيتِ كلمة رائعة في مسرح “مكسيم غوركي” تطالب المجتمع الدولي بفتح الحدود أمام السوريين الباحثين عن طوق النجاة، فماذا تحدثينا عن هذه التجربة؟

= هي صرخة في وجه المجتمع الدولي الكاذب الذي لم يقدر على إنقاذ شعب عظيم وبلد عظيم مثل سورية، من سفاح واضح للعيان، استخدم كل الأسلحة المحرّمة دوليًا. لقد سقط العالم كله، سقط القناع عن أوروبا والمجتمع الدولي ومجلس الأمن والهيئات العمومية والأمم المتحدة، أمام هذا العجز المقصود، لتدمير بلد كامل، من أجل إنقاذ استثماراتهم، وكأن الشعوب هي وقود لهم، وأرى أن هذه دكتاتورية أخرى.

نحن لا نريد أن نكون لاجئين في كل أصقاع العالم، وأنا -كلاجئة- أريد أن أرجع إلى بلدي، وهذه مسؤولية عالمية، وكنت أرغب أن أفضح وجه المدنية والتمدن في المجتمع الدولي، وأقول للسياسيين أخفوا وجوهكم من العار، وكان لعرض “النمور” صدى كبير، ولو سُمح لي بدخول القفص؛ لما ترددت، ولا يمكنك أن تتخيلي خوف الشرطة، حين قلت لهم لست أهم من غيري، كنت أمرّ بحالة من الإحساس بالعجز الذي يصل بنا إلى مرحلة أن ننهي حياتنا احتجاجًا على القهر والظلم.

– صحيح أن سياسة المجتمع الدولي كشفت تواطئها مع الدكتاتور ضد ثورة الشعب السوري، لكن في المقابل هناك أُناس عاديون ومثقفون ومنظمات مجتمع مدني يقفون إلى صفنا، فكيف يمكن تمتين وتوسيع هذه العلاقة لنصرة الثورة؟

= لا أعرف تمامًا، أنا التقيت في المجتمع الفرنسي بكثير من الفرنسيين المتعاطفين معنا، لأنهم يعلمون حقيقة ما يجري في سورية، لكن تسعين بالمئة من الفرنسيين قادرون بالكاد على تأمين متطلبات عيشهم، معنيون بالدرجة الأولى بالذهاب إلى العمل والعودة منه، وتربية أطفالهم، ضمن رحى الدوامة الرأسمالية التي يعيشون فيها، وضعهم الاقتصادي والاجتماعي لا يسمح لهم بالتعاضد مع الآخرين، مثلنا تمامًا حين كنا نسمع بما يجري في فيتنام ونيكاراغوا والبوسنة والهرسك. الشعوب الأوروبية تسمع بقضيتنا، كما كنا نسمع بالقضية الفلسطينية. الشعوب مسكينة ومطحونة تعيش في ظروف قاسية جدًا، وللأسف صوت الحق كان ضعيفًا على مر التاريخ، لذلك علينا أن نتجه إلى السياسة وإلى المجتمع الدولي الفاقد لأي فاعلية، على الرغم من كل مجالسه وهيئاته.

– ماذا عن عرض “مجزرة الكيماوي” في باريس؟

= هو شكل من أشكال عروض الشارع، قدّمناه في ساحة الباستيل، لعدم توفر أي إمكانات مادية، أتينا بالطحين وصممنا رقصة، حاولنا من خلالها أن نسترجع كيف ألقى النظام بالكيماوي على المدنيين، وما الذي يمكن أن يحدث للكائن البشري عند استنشاقه للغازات السامة. فكرة العرض كانت من اقتراح الراقص في فرقة “إنانا” الفنان محمد ديب الذي قدِم من ألمانيا، وقام بتدريب فريق العمل، وهم من الصبايا والشبان الهواة، أما الإخراج والتنفيذ فقد قام به حسين مجر.

كان العرض شعبيًا، لا علاقة له بالمسرح الكلاسيكي ولا بمؤسسة ثقافية. عرض قدمناه أمام أناس من السياح والمتنزهين، وفجأة اجتمع حولنا نحو أربعمئة متفرج! في البداية كان الفضول دافعهم للفرجة، بعد ذلك أحسوا بسوية فنية لائقة، وحين انتهى العرض بدؤوا يسألوننا من أين أنتم، ولماذا هذا العرض؟ قلنا نحن سوريون، ونريد أن نُذكّر الناس العاديين بأن ثمة قاتلًا، اسمه بشار الأسد، يضرب المدنيين العزل بالكيماوي.

– ما الفرق بين العمل ما قبل الثورة وفي ظلها، على اعتبار أنك من الفنانين الذين لم يتوقفوا عن العطاء؟

= قبل الثورة أسست لمسرح “تياترو”، وأحس أن هذا هو مشروع عمري، كان المشروع ثورة بحد ذاته، حاولت من خلاله أن أبني منبرًا حرًا ومستقلًا في البلد، وأحيانا أشبّه “تياترو” بالثورة؛ فهو مسرح حاول أن يصنع ثورته الخاصة به، وكان لديه مريدوه الصوفيون، من كل المشارب، عانى من قمع النظام وهيمنة المؤسسة الأمنية قبل الثورة، وحين وقفت إلى جانب الثورة؛ خربه الأمن العسكري وسرقه الشبيحة (نبيل صالح وزوجته رحاب ناصر)، حينها كتبت على صفحتي في (فيسبوك): “تياترو، فكرة ولن تموت”. “تياترو” يشبهني ويشبه سورية. حاليًا أفكر أن أعيد إحياءَه بعمل عن فدوى سليمان، وأنا بصدد جمع أوراقِ وكتبِ هذه البطلة.

–  ماذا أعطتكِ تجربة اللجوء، وما الذي أخذت منك؟

= أخذتْ روحي، أنا خرجت مرغمة من سورية، بعد ثلاث سنوات على قيام الثورة، مُنعت خلالها من العمل ومن السفر، أخذوا بيتي، وكان هاتفي مراقبًا، ولم أفكر بمغادرة البلد، لكن حين صدرت بحقي تسع تهم إرهاب، من بينها الخيانة العظمى؛ اضطررت إلى الخروج، تحت تأثير عاطفي من أمي وأختي وأهلي وأصدقائي. مررت بكل التعب الذي يمر به أي لاجئ، وفي النهاية أنا مجرد لاجئة، يعني مجرد رقم، ولا أريد أن أكذب على نفسي، أنا بنت سورية، وليس لدي ما يكفي من العمر، كي أؤسس خارج بلدي، لكن ينبغي عليّ ألا أيئس إلى أن تنتهي روحي، هذا ما أستطيع أن أفعله، أنا لا أملك غير كلمتي، أؤمن بالسلمية، وأؤمن بثورة الشعب السوري، وأتمنى إن جاء موتي أن أُدفن في سورية.

– أتمنى لنا جميعًا أن نشهد نصر الثورة السورية التي قدّمت ملايين الشهداء والمعتقلين والمهجرين قسريًا، وإلى ذلك الحين، ما هو دور المثقفين السوريين في بلدان اللجوء؟

= أن نستثمر كل منبر، مهما كان صغيرًا، حتى لو كان في الشارع أو المقهى، كي نقول الحقيقة، ونذكر العالم أن الثورة السورية قامت من أجل الكرامة، وأن هذا النظام لم يكن قادرًا أن يرد إلا بجوهره المتوحش، هذا الكلام علينا أن نكرره إلى أن نموت، وليس لدينا سوى وسيلة واحدة، أن نثبت على موقف موحد: نريد دولة مدنية، دولة مؤسسات، من دون جهاز أمني عسكري، نريد فصل السلطات، نريد قضاء نزيهًا، ونريد أن يسقط بشار الأسد وكل أعوانه والواقفين إلى جانبه، هؤلاء هم من يستحقون أن يكونوا في السجون وفي القبور. شهداء سورية هم العهد، الشباب الذين رحلوا وتركوا رسالتهم لنا، أجسادهم رحلت عنا لكن أرواحهم باقية فينا، ويجب ألا نتنازل وألا نخون دماءهم.




المصدر
تهامة الجندي