انحطاط الرقابة



حين أستعيد معظم النشاطات في المراكز الثقافية التي كانت تُقام، وكنت أساهم -أحيانًا- بقراءة قصة قصيرة أو إلقاء محاضرة، حين أستعيدها، وأنا الآن في باريس عاصمة النور والثقافة، لا يطفو في ذهني إلا الذهول والخزي من الكثير من النشاطات الثقافية التي كانت تقام في تلك المراكز، وبالطبع فإن كل المشاركين كانوا أعضاء في اتحاد الكتاب العرب؛ أي إنهم يحملون بطاقة انتساب تعني اعترافًا بموهبتهم وقبولهم فيه. ولهذه البطاقة قيمة كبيرة، ففي معظم المتاحف في أوروبا، يكفي أن تبرز بطاقة كاتب حتى تدخل مجانًا إلى المتحف أو إلى أي مكان أثري آخر.

أحب أن أستشهد ببعض الأمثلة التي انطبعت كالوشم في ذاكرتي: ذات يوم كان هنالك نشاط في المركز الثقافي بمدينة الحفة، وطبعًا يحضر هذه النشاطات رئيس فرع الحزب وأعضاء من الحزب، وبالكاد يبقى رئيس الفرع عشر دقائق، يغادر بعدها القاعة، فيما الكاتب أو الشاعر يقرأ إبداعه! هذا يدل على مدى احتقار أهل السلطة للثقافة. وكي يكتمل العدد في المركز، أحضروا أو جروا بنات مدرسة التمريض؛ ليملأن المقاعد وليصفقن.

بدأ النشاطَ شاعرٌ عضو في اتحاد الكتاب العرب. قرأ القصيدة التالية التي أتعجب كيف أني ما زلت حتى الآن أحفظها: أنا والنهد طفلان يتيمان، فمن يطعمنا حبة عيطون (يقصد العطون أي الزيتون الأسود) النهدان مجدافان يرتجان، فمن ينزل حلمي عن بغلته!

وارتجت القاعة بالتصفيق؛ لأن مهمة فتيات التمريض المسكينات التصفيقُ للشاعر، وربما بعضهن اعتقد أن الشعر يكون هكذا. صعقتني الرداءة والابتذال وغياب المعنى والجمال، ولم يبق إلا الهلوسة والقبح والجنون. ولما حضرت ابنتي من الجامعة، قرأت لها الشعر الذي ألقاه الشاعر في المركز الثقافي في جبلة؛ إذ افترضت أن الجيل الشاب قد يفهم ويستمتع ما نعجز نحن عن فهمه والاستمتاع به! قالت وهي تأكل لامبالية: ماما لعله يقصد نهدي البغلة!

أين الرقابة التي تقبل بشاعر كهذا وأمثاله في عضويتها؟ وكيف يقدمون له المنصات ليقرأ هذيانه، مشوهًا الذائقة الفنية والفكرية والجمالية لأجيال شابة! الجواب الوحيد هو الواسطة، وبخاصة أن علي عقلة عرسان بقي رئيسًا للاتحاد مدة ربع قرن، وكان مطلق الصلاحية ويتملقه الكثيرون! وكان في الاجتماع السنوي يحتل المنصة كبطل وحيد، ويبدأ خطابه الذي يراوح بين الترغيب والترهيب، ويستمر أكثر من ساعتين!! كم كنت أحس بالخجل، حين تنشب معارك كلامية (ويدوية أحيانًا)، حول موضوع مثل زيادة الضمان الصحي للكتاب! كانت هذه هموم الكتاب وليس الهم الثقافي والرفع من قيمتها، والتركيز على وظيفة الرقابة في قبول تلك الحثالة من المبدعين.

وفي مقلب آخر، كنت ذات مرة في بيروت، بدعوة من الإعلامي زاهي وهبة، وكان وقتذاك يعمل في تلفزيون المستقبل في برنامج (خليك بالبيت)، وكان للسيد زاهي طاقم عمل يساعده، فأرسل إليّ شابًا في الخامسة والعشرين من عمره، يحمل ورقة كتب فيها زاهي بعض التفاصيل عني والأسئلة التي تهمه. وكان الشاب لطيفًا جدًا، وأهداني ديوان شعر له صدر حديثًا عن دار نشر مُحترمة وسمعتها عطرة، وطلب مني أن أعطيه رأيي بشعره. فتحت الكتاب -كيفما اتفق- فوجدت مقطعًا شعريًا هو التالي:

“وحيدًا مثل كيلوت

مرمي على الأرض يتأرجح”.

يا للإبداع!! عادة يشعر الإنسان أنه وحيد مثل قمر أو أي شيء جميل آخر، أما كيف أحس هذا الشاب أنه وحيد مثل كيلوت (سروال داخلي) فقد صعقني. وتخيلت لماذا يتأرجح هذا الكيلوت؟ لعل بجانبه مروحة! ولم أنم يومها حتى قرأت هلوسات هذا الشاب الذي يؤمن أنه شاعر، والدليل أن دار نشر محترمة طبعت ديوانه، وكان عنوانه (الأرض في مكانها). وقرأت بعضًا من إبداعاته مثل عبارة (جئتك عاشقًا بلا قضيب)! عرفت -فيما بعد- أن الشاب دفع 2000 دولارًا لدار النشر، كي تطبع له ديوانه الهذياني المعتوه، وبأن المال يذل الثقافة في كثير من الأحيان. لكن ألا يوجد حد أدنى من احترام عقل الإنسان، قبل أن نقدم له ثقافة حقيقية! هل يعقل أن يشعر إنسان بأنه وحيد مثل “كيلوت”! أليس عارًا على دار نشر محترمة أن تقبض مالًا ولا يهمها أن تروج لإبداع كله إسفاف ورداءة.

ثمة أمثلة وأنواع كثيرة من شعر الهلوسة هذا، لكن اسمحوا لي أن أنتهي بالكتابة عن أدونيس الذي قال لي أكثر من صديق وصديقة: والله نستحي أن نقول إننا لا نفهم شعره! فهذا أدونيس المرشح الأبدي لجائزة نوبل للآداب؛ وهو مؤسس ما يُسمى “المدرسة الأدونيسية”، لكنني بكل صدق (ولأنني لم أعد أؤمن بالنخبة وأمجد أحدًا) أعترف أنني لا أفهم 90 بالمئة من شعره، وبأن كتابه (مفرد بصيغة الجمع) حيث استعمل فيه الإشارات الهندسية مثل أكبر وأصغر.. إلخ، لم أجد لها من معنى، واستعصى عليّ فهمها (ولا أظنني متخلفة عقليًا وعاجزة عن فهم نص). أنا أتفق مع الكاتب المبدع سمرست موم البريطاني، في كتابه الرائع (عصارة الأيام)، بأن الفكرة حين تكون واضحة في ذهن الكاتب تصل بسهولة ووضوح إلى ذهن القارئ؛ والعكس صحيح، فمعظم هؤلاء الشعراء يهذون ويستسهلون قصيدة النثر، ويظنون أنهم مهما كتبوا وخربشوا من معان غامضة فستكون شعرًا. أعترف أن أدونيس مفكر ومثقف، لكنه صعقني حين صرح أمام حشد غفير في أحد المؤتمرات الأدبية، بأنه لا يقرأ روايات! ووجدتني أمتلك الجرأة لأقول بعفوية، ومن دون تريث: لا يحق لك ألا تقرأ الرواية! أنت مثقف كبير ويجب أن تطلع على كل أنواع الأدب. فضحك وهو ينفث دخان سيجاره وقال لي: أنا لا أقرأ سوى الشعر ولا أقرأ روايات أبدًا! فهل هذه مسؤولية مبدع؛ أن يهمل أرقى فن، وهو فن الرواية؟ ألا يجب أن يطلع على أحدث الروايات الصادرة وينقدها أيضًا.

لكن أكثر ما يؤلمني هو هؤلاء الشعراء المغمورون الموهوبون جدًا، لكن لا أحدَ يدعمهم؛ إذ لا يملكون واسطة لدخول اتحاد الكتاب العرب وطباعة أعمالهم، ولا يملكون مالًا لدفع ألفي دولار لدار نشر محترمة (وهي برأيي غير محترمة) لطباعة ديوان شعر يبدأ بعبارة: “وحيدًا مثل كيلوت”. هؤلاء الشعراء أعرفهم جيدًا وألتقي بهم في اللاذقية، ولا أحد يبالي بهم أو حتى يعطيهم جزءًا من وقته لسماع أشعارهم.

لا يخفى على أحد أنه حين تقام معارض “اتحاد الكتاب العرب” لبيع الكتب، الكل يضحك شامتًا وساخرًا قائلًا: كُتب الاتحاد لا تُقرأ. يكفي هذا الحكم على كتب الاتحاد وغيرها من الكتب التي طبعت في دور نشر أخرى؛ وقبلت الرداءة والسوقية بالمال. رحم الله ألبير كامو الذي قال: الكتابة شرف.




المصدر
هيفاء بيطار