مناطق النفوذ نحو الترسيم النهائي




تمضي التطورات السياسية والعسكرية في سوريا باتجاه الترسيم النهائي لحدود مناطق نفوذ القوى المحلية والإقليمية والدولية والتي تشير جميعها إلى تمدد حلفاء روسيا في ظل انكفاء الأطراف الأخرى حيث تركز السياسة الأميركية على ما تسميه “محاربة الإرهاب” بينما يتوارى الداعمون العرب لقوى المعارضة في غمرة الخلافات الخليجية، في حين سعت تركيا بعد أن وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الحلف الذي تقوده روسيا، إلى البحث عن مصالحها القومية بالدرجة الأولى حيث هاجس التمدد الكردي في الشمال السوري، مع محاولة مساعدة قوى المعارضة على تلافي الخيارات الأسوأ في ظل تهديدات باجتياح المحافظة الوحيدة التي تسيطر عليها قوى المعارضة، أي محافظة ادلب، تحت ذريعة “محاربة الإرهاب”.

محطة شكليّة

 وانعكست هذه التبدلات لصالح النظام وحلفائه من خلال نتائج مؤتمر أستانا الذي انتهى باتفاق بين الدول الضامنة؛ روسيا وتركيا وإيران،على اتفاق نهائي بشأن إقامة أربع مناطق لخفض التصعيد في سوريا، بما في ذلك محافظة إدلب.

وجاء في البيان الختامي للاجتماع الذي تلاه وزير خارجية كازخستان خيرات عبدالرحمانوف، أن “إنشاء مناطق تخفيف التصعيد والمناطق الأمنية، هو تدبير مؤقت مدته 6 أشهر، ويمدد تلقائياً على أساس توافق الضامنين، مشيراً إلى التوافق على إنشاء مركز تنسيق مشترك تركي روسي إيراني، يهدف إلى تنسيق أنشطة قوات مراقبة خفض التصعيد”.

وخلال المؤتمر، سلّم وفد المعارضة عدداً من الملفات إلى المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، تتضمن شهادات عناصر من قوات النظام على تعامل النظام مع تنظيم “داعش”، إضافة إلى تسليم الوفد الروسي ملف يضم خروقات النظام في مناطق “خفض التصعيد”.

والواقع أن روسيا استبقت التوقيع على الاتفاق بنشر مجموعات من شرطتها العسكرية جنوبي محافظة إدلب فيما يبدو أنه استعجال من طرفها لتطبيق الاتفاق، وتعاملها مع أستانا على أساس أنها محطة شكلية لأخذ تواقيع الأطراف الأخرى، بينما الأمور عندها منجزة ومنتهية.

وقالت مصادر محلية إن أفراداً من الشرطة العسكرية الروسية انتشروا في نقاط تخضع لسيطرة النظام في ريفي حماة الشمالي والغربي، حيث ينص الاتفاق على انتشار قوات روسية وإيرانية في المناطق المحاذية لإدلب من جهة سيطرة قوات النظام.

وكان مركز “عمران” السوري للدراسات الاستراتيجية، توقع في ورقة بحثية نشرها تقسيم محافظة إدلب إلى ثلاث مناطق تدير إحداها روسيا بينما تنتشر “تحرير الشام” في الثانية، وتسيطر تركيا على الثالثة القريبة من حدودها.

من جهة أخرى، قالت وكالة “سبتونيك” الروسية أنه من المقرر أن يعقد قريباً اجتماع روسي- أمريكي لبحث موضوع دير الزور والتنف، وسط أنباء عن استعداد واشنطن لتسليم منطقة التنف لقوات نظام الأسد وروسيا، بحسب الوكالة، بينما كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن موسكو وواشنطن رفضتا طلباً إسرائيلياً بإخلاء شريط حدودي عمقه 60 كم جنوبي سوريا، من أي وجود للقوات المدعومة من قبل إيران.

حِراك واضح

ومع انتهاء مؤتمر أستانا الذي تقرر خلاله ضم محافظة إدلب السورية وجوارها إلى مناطق “خفض التصعيد”، ونشر مراقبين دوليين للإشراف على تطبيق الاتفاق، تشهد إدلب حركة دؤوبة لتلافي أية خيارات “سيئة” قد تبيت للمدينة بدعوى محاربة الارهاب، وتحديداً “هيئة تحرير الشام” التي تشهد بدورها انكماشاً متواصلاً بعد سلسلة الانشقاقات عنها، والتي أعادتها تقريباً إلى هيكلها الأول المتمثل في “جبهة فتح الشام” أو ما كانت تعرف بـ “جبهة النصرة”.

وفي هذا الإطار، عقدت مؤسسات مدنية وعسكرية عاملة بإدلب مؤتمراً لتشكيل “إدارة مدنية” للمحافظة، إضافة إلى انتخاب برلمان يتولى تسمية رئيس للحكومة، في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد في عموم البلاد.

ويقول المنظمون للمؤتمر إن الظروف أصبحت مواتية لتشكيل جسم مدني بعيداً عن “التجاذبات السياسية والعسكرية”، وشارك في المؤتمر الذي عقد  في قاعة المؤتمرات بمعبر باب الهوى، شخصيات مدنية وعسكرية، منها رياض الأسعد مؤسس “الجيش السوري الحر” الذي شدد على ضرورة وجود جسم واحد يضبط العمل في ظل الضغوطات التي تشهدها إدلب.

ويأتي المؤتمر بعد أن دعت “هيئة تحرير الشام” جميع الفصائل العسكرية وعلماء الدين والكوادر المدنية لاجتماع بهدف “الخروج بمشروع يحفظ الثورة السورية ويمثلها”، الأمر الذي رفضته معظم الجهات والشخصيات في المدينة، لتنطلق بعدها ثلاث مبادرات دعت أيضاً إلى تشكيل “إدارة مدنية موحدة”، لكن لم يكن لأي منها نتائج على الأرض.

وقالت مصادر محلية إن هذه الخطوة تهدف إلى تشكيل قيادة موحدة تتسم بالتمثيل والفاعلية بالنسبة لمحافظة إدلب وسائر البلاد بهدف التخلص من وصاية القوى الخارجية وقبل ذلك وصاية بعض القوى الحزبية في الداخل.

وكانت “هيئة تحرير الشام” أعلنت رفضها نتائج محادثات “أستانا 6″، معتبرةً أنها تهدف إلى تجميد القتال وتسوية الوضع مع نظام الأسد و”لا تحقق أهداف الثورة”.

وشهدت “الهيئة” في الآونة الأخير سلسلة انشقاقات خرج خلالها أكبر تشكيلين عسكريين من جسمها وهما حركة “نور الدين الزنكي” و”جيش الأحرار” فضلاً عن العديد من التشكيلات الأصغر، وذلك احتجاجاً على التسريبات الأخيرة من داخل الهيئة التي أظهرت التخطيط المسبق من جانب بعض المتشددين في الهيئة لتصفية “حركة أحرار الشام” تحت حجج واهية، واستهتار هؤلاء بالشرعيين في الهيئة، ما دفع بعضهم مثل الداعية السعودي عبدلله المحيسني للانسحاب من الهيئة.

تطمينات لا تكفي

ورغم محاولة المتحدث العسكري باسم وفد المعارضة المشارك في مؤتمر أستانة ياسر عبد الرحيم طمأنة “هيئة تحرير الشام” قائلاً إنه “لا نية لهم ولا للضامن التركي في قتالها”، معتبراً أن ما يتداوله الإعلام عن عمل عسكري وشيك ضدها “هدفه الفتنة، وإحداث اقتتال جديد بين الفصائل”، داعياً “هيئة تحرير الشام” إلى إجراء إصلاحات شاملة في هيكلتها القيادية وإبعاد الشخصيات الجدلية من صفوفها، إلا أن مصادر ومؤشرات عدة تشير إلى احتمال شن عملية عسكرية باتجاه إدلب قريباً إذا لم تحدث حلحلة بشأن موقف “هيئة تحرير الشام” الرافض لاتفاق “خفض التصعيد” الذي تم إقراره في أستانا، وإذا لم تبادر “الهيئة” إلى حل نفسها باعتبار أنها بوضعها الحالي، وهي مصنفة كمنظمة ارهابية بموجب قرارات مجلس الأمن، ستظل محل استهداف من القوى الدولية، ما يعرض المحافظة لمخاطر جمة، ويعيق تطبيق اتفاقية “خفض التصعيد”.

وفي هذا الاطار، واصلت تركيا إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحدود مع سوريا لليوم الرابع على التوالي، وسط  تسريبات عن عملية محتملة ضد “هيئة تحرير الشام”.

ولم توضح السلطات التركية أسباب زيادة التعزيزات العسكرية، وبررتها بزيادة الترتيبات الأمنية والعسكرية، استباقًا لـ “الهجمات الإرهابية”، غير أن تكهنات انتشرت في الآونة الأخيرة تحدثت عن عملية عسكرية روسية- تركية في محافظة إدلب تستهدف “هيئة تحرير الشام”، تبدأ بضربات جوية، قبل أن يتوغل الجيش التركي في إدلب انطلاقًا من الحدود الشمالية، بينما يتقدم كل من الجيشين الروسي والإيراني من الجنوب.

من جهتها، قالت وزارة خارجية نظام الأسد، إن اتفاقات “خفض التصعيد” في محافظة إدلب، “لا تعطي الشرعية لتركيا بالتواجد على الأراضي السورية”، واصفة وجودها بأنه غير شرعي.

 وقبل أن يجف حبر الأوراق في أستانا، عمدت قوات النظام والطائرات الروسية إلى خرق الاتفاق عبر قصف بلدات في ريف حماة الشمالي  تدخل ضمن اتفاق تخفيف التصعيد .

وكان ريف حماة الشمالي شهد عمليات عسكرية لقوات النظام على منطقتي الجنابرة والزلاقيات خلال الأشهر القليلة الماضية، لكن الطيران الحربي لم يتدخل في هذه المعارك.

معارك الشرق

في غضون ذلك، تواصل قوات النظام تقدمها ضمن محافظة دير الزور مع بروز مؤشرات تصادم مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتشهد المحافظة عمليتين عسكريتين؛ الأولى تتمثل بتقدم قوات النظام مصحوباً بالميليشيات الشيعية وبدعم مكثف من الطيران الروسي، من جهة الغرب للمحافظة، والثانية تشنها ميليشيا “قسد”، بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن في الريف الشرقي، في دلالة على حجم التنافس الروسي الأمريكي على هذه المحافظة الهامة الغنية بالثروات.

وقطعت قوات النظام إمداد تنظيم “داعش” في مدينة دير الزور بالسيطرة على حي الجفرة المحاذي لنهر الفرات، بحسب ما ذكرت وسائل إعلام النظام التي أشارت إلى أن قوات النظام حاصرت تنظيم “داعش” في كل من حويجة صقر، وجمعيات الرصافة، وأحياء: خسارات، والكنامات، والصناعة، ويعتبر حي الجفرة الذي تم إعلان السيطرة عليه البوابة الجنوبية لأحياء المدينة الغربية، وصولًا إلى مدينة موحسن على الضفة الغربية للفرات.

وتتزامن عمليات النظام في دير الزور مع عملية عسكرية أخرى أعلنها تحت اسم “فجر 3” على الحدود السورية العراقية، للسيطرة على مدينة البوكمال في ريف دير الزور الجنوبي، ومع عملية أخرى أعلنتها قوات “قسد” لسيطرة على الضفاف الشرقية لنهر الفرات.

وكان المتحدث باسم التحالف، ريان ديلون، قال إن “قوات سوريا الديمقراطية” لا تعتزم دخول مدينة دير الزور، مما يقلص احتمالات حدوث مواجهة بين القوات الحليفة لواشنطن وقوات نظام الأسد، مشيراً إلى أنها سوف تتحرك بمحاذاة وسط وادي نهر الفرات وحسب.

ومع اتساع رقعة المعارك في المحافظة، تجلى التنافس الأمريكي الروسي بعد استهداف الطيران الروسي تجمعاً لميليشيا “قسد”، غير أن الضحية الأبرز للطيران الروسي وطيران التحالف في دير الزور هم المدنيون الذين حصد الطيران العشرات منهم خلال الأيام الأخيرة، وقتل 13 شخصاً نتيجة غارات روسية على بلدة خشام في ريف دير الزور الغربي، بينهم نساء وأطفال، كما قتل 5 أشخاص جراء قصف الطيران الحربي المعبر النهري في بلدة البوليل، أثناء محاولة الأهالي النزوح عبر نهر الفرات.

في السياق ذاته، تعرضت مدينة الميادين في الريف الشرقي إلى قصف مماثل من الطائرات الروسية، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى.

ويأتي ذلك، بعد سلسلة مجازر ارتكبتها طائرات التحالف في المحافظة ذهب ضحيتها العشرات بينهم 120 مدنياً في غارات شنها على مدينة الميادين التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” في شرقي سوريا، وشهدت المحافظة حركة نزوح واسعة من قبل الأهالي والسكان، باتجاه البراري والمدن المجاورة، بسبب اشتداد حدة المعارك بين أطراف الصراع، وكثافة القصف الجوي من قبل الطائرات الروسية وتلك التابعة للتحالف الدولي.




المصدر