احتلال روسي ومجتمع دولي غير عادل



أصحابُ العقائد يجدون الحلّ والربط في عقائدهم تلك؛ فالمؤمن يجد كل الحقائق في نصه الديني وفي سلوك النبيّ، والليبرالي يجد الصورة النموذجية في بلدان المركز، ويُكرّر علينا ما يحفظه عن الليبرالية ويتجاهل ما أنتجته، وكذلك الاشتراكي. الحقيقة ليست هنا، الحقيقة في الوقائع المحدّدة بالزمان والمكان، أي في ما هو عليه العالم، وما تتوضع عليه تلك العقائد من سلوكيات ووقائع وأزمات. روسيا الآن تحتل سورية، وهناك اتفاقات تُنظم وجودها العسكري، واتفاقات اقتصادية لنهب موارد سورية، وحماية سياسية دولية للسلطة السورية في الهيئات الدولية (منذ 2011) التي يُفترض أنّها تُنظم العلاقات بين دول العالم. الهيئات الأخيرة أثبتت فشلها الكامل تاريخيًا، ولن نتكلم عن القرارات الدولية بخصوص الحقوق الفلسطينية، ويتبيّن -يوميًا- أن القرارات الدولية ليست مُلزمةٍ إلا بتوافق دولي بين الدول العظمى، أي أنّ الدول الأخيرة هي الأساس في أيّ تدخل دولي توافقي في العالم، وما عدا ذلك، هناك احتلالات تقوم بها الدول العظمى مُنفردة، كما حال أميركا في أفغانستان والعراق، وروسيا في سورية والقرم، وهكذا.

كل القرارات الدولية الخاصة في سورية أُهمِلت، وهُمّش جنيف لصالح أستانا وعمان، وترافق ذلك مع دمار كليٍّ لمناطقٍ واسعة، من خلال الطيران الروسي بخاصة، ومسار أستانا هو مسارٌ روسيٌّ بالأساس، ولروسيا “الحق” في تحديد مجرياته، وتوزيع الحصص للأتراك، وللإيرانيين، وللنظام، وللمعارضة وسواهم.

كرّرت روسيا أنّها جاءت إلى سورية بطلب الحكومة الشرعيّة. ولم تُحاصَر الحكومة “الشرعية” العظيمة هذه من قبل الدول العظمى والهيئات الدوليّة، بل لا يزال الاعتراف فيها قائمًا؛ وبالتالي لا معنى للحديث عن إشراف دولي مُحبذ، أو توهم أن ذلك ممكنًا من أصله؛ فهناك احتلال روسي لسورية، بمعاهداتٍ لعقود قادمة، وبقية الدول -بمن فيهم المعارضون للنظام- تتعامل مع هذه الوقائع؛ وبالتالي سيُرسم مستقبل سورية عبر أستانا وعمان، وربما جنيف لاحقًا، وحينما تُقِر المعارضة بنتائج أستانا. المعارضة الانتهازية تستجيب تباعًا لمنصات روسيا، وتتراجع هيئة التفاوض في الرياض عن لعب دور مركزي في المفاوضات.

ما يخص أيّ دورٍ دولي ممكن، في الوضع السوري، يمكن أن يكون فقط عبر هيئات قضائيّة دوليّة، بأن تُرفع قضايا ضدّ المسؤولين عن القتل في سورية، وأن تخصَّهم كلهم، وطبعًا لن تتفعَّل نتائجها من دون توافقٍ دوليٍّ عليها، حتى في حال صدورها. القضاء الدولي يحاكم الآن فقط أعضاء منتمين إلى (داعش) أو (النصرة)، إن وجد من يرفع القضايا ضدّهم!

التركيز على الإشراف الدولي من قبل مثقّفين كُثر، يتضمن تهربًا من طرح قضّيتين: عدم الإقرار بوجود احتلال روسي أساسي واحتلالات أخرى على الأرض السورية، وإن بشكل كان أقل حجمًا وتأثيرًا، وكذلك القول بأنّه لم يعد هناك أيّ دورٍ للسوريين في تقرير شؤونهم.

لا شك أن التأثير الأكبر، على تطّورات الوضع العام في سورية، أصبح بيد دول الاحتلال، وهناك أطراف سورية تابعة لها، وتتحرك وفق مصالح دول الاحتلال تلك. هذه الأطراف التي أصبحت قوًى قمعيّة ضد السكان الذين ثاروا ضد النظام، وحرّروا مناطقهم قبل أن تتشكل هذه الفصائل.

نعم، الدور السوري في تقرير مُستقبل سورية هو في أسوأ حالاته. الممكن حاليًّا للمُنشغلين بالسياسة، أو للشعب، هو رفض أيّ قراراتٍ تخصّ سورية، وتتجاهل إعادة الإعمار للمدن المُدمرة، وإعادة اللاجئين وتمثيل المجالس المحليّة في دمشق، حينما يبدأ الحل السياسي. يضاف إلى هذا الممكن، العملُ على انتخاب مجالس محلية في كل سورية، وليس فقط في مناطق خفض التوتر؛ بما يعيد للسوريين دورًا حقيقيًّا. طبعًا حينما يوجد الاحتلال يصبح من العبث والثرثرة بمكان طرح موضوع إعادة الإعمار، كتنمية مستدامة أو كنهوض عام في كل جوانب المجتمع، فقط يمكن تأهيل مناطق محدّدة تخدم هذا الاحتلال، كمناطق منابع النفط والغاز والفوسفات وسواها، وبعض الأماكن في المدن، لتخديم المصالح ذاتها.

إعادة الإعمار -في حال طُبّق، خارج المصالح المباشرة للاحتلال- سيكون لصالح شركات خارجية أو وكلاء محليّين لها، وبأحسن أحواله سيتمّ في أعمال البناء، كما تمَّ في لبنان مثلًا، ولم يتمّ قط في العراق وأفغانستان، وربما يتجاهل التصنيع أو الزراعة أو مصالح أغلبية السكان.

الحرب في سورية ستنتهي كما يبدو، وستحاول روسيا اعتبار مسار أستانا بديلًا من جنيف، وستظل تتابع مسار جنيف للإمعان في تتفيه مقررات (جنيف1)، وكل ما يخص فكرة حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، وبما يُنهي هيئة الرياض وتحويلها إلى منصّة من منصّات روسيا؛ وتهميش جنيف متعلق بتهميشٍ الدور الأوروبي، فأوروبا لها حضور فيه. المتابعة بمسار أستانا لا تتناقض مع المصالح الأميركية التي تنحصر تباعًا لصالح دعم الأكراد، ومنطقة درعا لاعتباراتٍ إسرائيلية. بمعنى آخر، إن التدخل الأميركي الآن، ومن قبل، كان من أجل تمكين روسيا في سورية، وربما هناك توافقات بخصوص ذلك، والتفرّغ لمتابعة الشأن العراقي بالتحديد، وتوريط روسيا أكثر فأكثر في الشأن السوري؛ حيث إنه بغياب دورٍ أميركي، وبتفرد روسيا بالإشراف على سورية، وبدرجة أقل إيران، وبتحالف مع تركيا، وبغياب تمثيل مصالح السوريين؛ لن تستقر الأوضاع في سورية.

الحرب الحاليّة -كما يبدو- انتهت، وسيُعلن الانتصار فيها بالخلاص من الجهاديين؛ وستكون سورية مُقسمة إلى مناطق نفوذ للدول، مع هيمنة روسية أساسيّة. السوريون معنيون بالاستفادة من توقف الحرب وإعادة السياسة إلى الشعب، وحثّه على العودة، والمساهمة في إعمار بلده، ورفض كل السياسات التي لا تحقق مصالحه في حياة أفضل، وبدءًا، بإعادة تأهيل المدن والبلدات والتصنيع والزراعة والحريّات، والعمل من أجل الوصول إلى نظام ديمقراطي، وطبعًا لا يمكن أن تتحقق كل هذه المسائل، من دون طرد المحتلّين وخلقِ توافقات بينيّة بين السوريين.




المصدر
عمار ديوب