اعتقال سورية



يُراد لنا أن نصدِّق أنّ هناك أمرًا واحدًا يكاد الجميع، أفرادًا وهيئات وحكومات، يتفقون عليه، هو صعوبة فهم ما يجري في سورية، بل على ما هو أصعب: تعقيد حلِّ ما بات يسمى اليوم المسألة السورية، حلٌّ بات عصيًا على التحقيق، حتى في نظر من باتوا سادةَ الأرض والسماء، في هذا البلد المعتقل: روسيا والولايات المتحدة وتابعيها من ميليشيات ومرتزقة، محلّيين ومُستورَدين من جهات العالم الأربع. لكن بعضنا، مع ذلك، يرى أن هذا الاتفاق الظاهري في الواقع، والكاذب في أفضل الأحوال، يخفي أكثر من حقيقة بليغة، منذ أن تمكن الفاعلون الأساسيون من القبض على هذا البلد واعتقاله، إلى حين يتمكنون من ترويضه وإعادة تكوينه بما يستجيب لتطلعاتهم في شرق أوسط جديد خالٍ من العداوة لـ “إسرائيل”، ومن التمرد على الاستبداد، بعد أن يتم تشذيب هذا الأخير وصقله، ثم إخراجه على الناس في لباس ديمقراطي يخفي، من جديد، كل ما كشفت عنه الثورات العربية من عورات وفضائح، يندى لها جبين أسوأ المراحل التي عرفتها هذه المنطقة من العالم، خلال تاريخها الطويل.

تتمثل هذه الحقائق في العناوين التي قرر كل واحدٍ من هؤلاء وضْع ما يناسبه منها، على ما جرى في سورية منذ آذار/ مارس 2011، على الرغم من اختلافه جذريًا عما يجري الآن، بما ينفي هذا الاختلاف من ناحية، ويحيل إلى عدد من المرجعيات التي يقولها كل واحد من هذه العناوين، كما لو كان يُرادُ من ذلك تحقيق اكتمال رسم مشهد مطلوب، يجب أن يبقى، كما رُسِمَ، إلى أجلٍ كلما بدا أفقه قريبًا؛ امتدّ وراءه أفق آخر.

سوى أن العقدة، في الواقع، كل العقدة، تكمن في قراءة هذا المشهد تحديدًا، مشهد العناوين: ما يخفيه كل منها وراءه، من جهة، والمسافة القائمة بين ما يقوله كل عنوان، من جهة ثانية، وبين ما يتطلع واضعه إلى تحقيقه وما يجري فعلًا على الأرض، من جهة ثالثة.

العناوين أولًا، وهي أربعة: مؤامرة -كونية- تستهدف ضرب القوى المعادية لـ “إسرائيل” (القوى الممانعة)؛ حربٌ من أجل حماية الدولة ومؤسساتها؛ حربٌ أهلية؛ الحرب على الإرهاب. ومن تبناها ثانيًا: إيران وذيولها، روسيا، ومعظم الدول الغربية، بالنسبة إلى العناوين الثلاثة الأولى؛ ثم اجتمع الكلّ على العنوان الأخير مخرجًا من الفضيحة وتغطية لمرامي سياساتهم الحقيقية. لم يكن تبني النظام الأسدي لهذه العناوين جميعها، على التوالي، إلا تعبيرًا عن طبيعة العلاقة التي تربطه بهذه القوى، وكذلك عن طبيعة الدور المناط به منذ أكثر من خمسين عامًا، ويقوم بتنفيذه على أحسن وجه، لولا هذا الانفجار الذي بدأ في تونس، على غير انتظار من أحد، ثم امتدَّ إلى مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، وأُطلِقَ عليه اسم الربيع العربي، وحَمَلَ وزراءَ الخارجية في الدول الكبرى على الهرع إلى ميدان التحرير بالقاهرة، كي يعاينوا بأنفسهم معنى هذه الثورة العارمة شبه الشاملة، من أجل التفكير في طرق معالجتها. وبقدر ما بدا الجميع، بلا استثناء، “مرحّبين” بهذا الربيع العربي، بقدر ما بدوا مستائين من إمكان وجوده في سورية؛ فأنكروا حتى إمكان وجوده فيها، منذ اللحظة الأولى، وطفقوا يقدمون توصيفات لما يجري (كي يجري كما يريدون) على لسان من أنيط به دور المواجهة، رأس النظام الأسدي، الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين عن توصيفٍ ينكر المعنى الحقيقي، ويسبغ المعاني التي قرر إضفاءها، مبشرًا بالعواقب التي ستترتب عليه، بدءًا من خراب معمم، وانتهاءً بحرب إقليمية، بل بحربٍ عالمية يمكن أن تنشب، ما استمرت “المؤامرة الكونية” ضد النظام الممانع، مذكرًا في طريقه -دون أن يرف له جفن- بما يمكن أن ينال “إسرائيل”، إن لم تسارع إلى الحفاظ عليه.

هكذا، بين مناورات منوعة المضمون والمسالك للنظام الأسدي، حاولتْ استيعاب المفاجأة وحجمها ومراميها البعيدة، واستجاباته التي تدرَّجَت في مستوى عنف الرسائل التي تضمنتها، وقراره الحاسم بحلٍّ جذريّ، عماده قوة لا تعرف الرحمة، تمَّ القبض على سورية، برغبة وتواطؤ صريحيْن من القوتيْن العظميين، في نهاية سنة الربيع العربي، 2011، بوصفها البلد الأساس الذي يراد له أن يُقدَّمَ على مذبح إعادة تكوين الشرق الأوسط، ضمن الفوضى “الخلاقة” المعممة لهذا الغرض، على كافة بلدان المنطقة وبصور مختلفة، منذ بداية القرن الحالي.

لذلك؛ غُيِّبَت الثورة السورية التي كان قوامها الشعب السوري بمختلف فئاته ممثلًا بالشباب الذي سُجن أو قُتل أو نُفِيَ، تحت هذه العناوين التي أُنهيت خدمة الثلاثة الأولى منها، في حين استبقي الأخير منها عنوانًا واحدًا ووحيدًا وعلى ألسنة الجميع: الحرب على الإرهاب. وتمكنت هذه القوى مجتمعة، في إثر ذلك، من أن تستعين بالمشهد الذي صمَّمته ليكون الصورة المعبرة الوحيدة والمُجازة لتعقيد “المسألة السورية”، وللحديث عن ضرورة حلها بمختلف الوسائل التي يراها من اعتقلوا البلد بأكمله، ثم، وهم يستبدلون عبر المؤتمرات الجوالة بين جنيف وفيينا وأستانا، الأكاذيب بالحقائق، ويلوون الكلم والأفعال عن مواضعها، ساووا بين الجلاد وخصومه، تمهيدًا لاعتماد الأول وإعادة تعويمه في الوقت الذي يتدبرون فيما بينهم أمرَ ترويض الآخرين أو القضاء عليهم نهائيًا.

لا يمكن تثمين أهمية وفداحة الخدمات التي قدمها النظام الأسدي، طوال خمسين عامًا، إلى الدول الكبرى على اختلافها، ولا سيّما السنوات الست الأخيرة منها، إلا من خلال هذا الحرص الشديد الذي تبديه اليوم، وبمختلف الوسائل أيضًا، على بقائه، وعلى حمايته من أن يُقاد صاغرًا أمام محكمة العدل الدولية، بل على أن يخرج -إن اضطرت إلى القبول بخروجه ذات يوم- بلا حساب. لكن ذلك كله يبقى في نهاية المطاف الوجه الذي يُراد لنا أن نراه، أما الوجه الآخر فهو بالفعل شأن آخر!

ذلك أن تغييب الثورة لا يعني القضاء عليها، فقد أمكن للثوريين الحقيقيين فيها، مع كل هذه المحاولات من التهميش والتغييب وتحويل الأنظار، أن يروا بأعينهم قواعد اللعبة: الدول العربية التي بدت وكأنها سيدة خياراتها، ثم ظهرت في عري تبعيتها الكاملة لمن تدين أنظمتها بوجودها واستمرارها لهم؛ والدول “الصديقة” التي تضع مصالحها فوق كل اعتبار، على الرغم من مناداتها بحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب؛ والدول الكبرى وقد عادت من جديد تحتل الأراضي، وتبني القواعد العسكرية، وترهن مصير البلد عقودًا، بعد أن دفع العرب، طوال القرن الماضي، غاليًا ثمنَ خلاصهم من الاحتلال ومن القواعد ومن مختلف ضروب الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية. كما أمكن لهم أن يكتشفوا أن الهدف لم يعد مجسدًا في الخلاص من حكم مستبد، بقدر ما بات يتجسد في تحرير البلد من أيادي من اعتقلها: روسيا وذيولها، وإيران وأتباعها.

ولسوف يتم ذلك قطعًا، فهم يعرفون أنَّ الأيام دول.




المصدر
بدر الدين عرودكي