الإيقاع نبض الفن



يقول أرسطو في كتابه فن الشعر: “الصمت بين نغمين نغمة”.

وينطبق هذا -حتمًا- على النغمة بين صمتين، فلا نغمة بلا صمت! فالصوت الدائم ﻻ يشكل إيقاعًا، وكذلك الصمت الدائم. إن تناوب الحركة والسكون هو أساس الإيقاع، وهو لا يوجد في الموسيقى فقط، بل في التشكيل البصري الثابت وأصوات الطبيعة والحيوانات والحركة الميكانيكية أيضًا (بندول الساعة، مطرقة العامل، تكتكة الآلات..).

ثمة إيقاع في الكون والطبيعة خارج عن سيطرتنا، مثل تكرار الليل والنهار، والولادة والموت، والربيع والخريف، وحركة موج البحر والشمس، وتحولات القمر والنجوم والشجر، وكذلك دقات القلب والتنفس والنوم واليقظة و”الساعة البيولوجية”.. كما أن سيرورة الحياة والبيئة تفرض إيقاعاتها الخاصة والمتنوعة من شخص لآخر، فلكل منا إيقاعه الخاص ولكل مدينة وقرية وجبل ونهر وصحراء وبحر؛ إيقاعه المميز.

لكن، ثمة إيقاعات أخرى نصنعها نحن البشر من خلال حركتنا الدائبة، في خطواتنا وأعمالنا، وفي مختلف أنواع المهن التي نمارسها (نجارة، حدادة، فلاحة، عمارة..) وكذلك الأيض والجنس والرياضة وغيرها من النشاطات.

هذه الإيقاعات التي تحدث بمعزل عنا، ودون إرادة منا، لا تنتمي إلى الإيقاع الفني، محور حديثنا. وسبب ذلك أنها متكررة، رتيبة، لا إرادية، غير واعية، وبلا هدف أو فكرة محدد. وهي لذلك‏ تخرج من دائرة الإبداع، وتبقى في دائرة الظواهر الطبيعية والبيولوجية. أما الإيقاعات الإبداعية التي يصنعها الإنسان عامدًا، فهي واعية مخطط لها، ومصنوعة للتعبير عن مشاعرنا أو التأثير في مشاعر الآخرين، حزنًا وفرحًا وخوفًا وغضبًا.. وهي عبارة عن “تكرار مقصود للأجزاء ضمن الكل” تكرارًا خلاقًا منسجمًا وهادفًا، مثل الإيقاع الموجود في الموسيقى والرسم والألوان والأدب والعمارة والنحت والرقص والسينما، وغيرها من الفنون الجميلة. فتكرار الطبقات والنوافذ في البناية الواحدة إيقاع مصنوع، وتكرار الدرجات في السلّم إيقاع، وكذلك إيقاعات الشعر والنثر، والصوت والصورة والمونتاج في السينما والتلفزة.. أما في المسرح، فيُعدّ الإيقاع من أخطر عناصر العرض وأشدها تعقيدًا وتأثيرًا، وذلك لتعدد الأصوات والحركات فيه، ولأنه يعتمد الإيقاعات الدرامية الداخلية بالتناوب مع الإيقاعات الخارجية.

إنه نبض العرض المسرحي الذي إذا اختل؛ اختلت معه حياة العرض. فالتدريبات المضنية التي يجريها فريق العمل، وإجراء التعديلات المستمرة عليه -حذفًا وإضافةً- ما هي إلا محاولات حثيثة لضبط هذا الإيقاع والوصول إلى الانسجام التام. ويعد المخرج هو المايسترو أو ضابط الإيقاع المكلف بهذه المهمة بالتعاون –طبعًا- مع عناصر العرض مجتمعة. فالممثل يبدأ البحث عن إيقاع الشخصية الداخلي والخارجي، منذ البداية، فحركته على الخشبة ليست مجرد حركة ميكانيكية تضبطها السرعة أو البطء، وهدفها الانتقال من مكان إلى آخر؛ بل هي حركة مشروطة بعوالم الشخصية وظروفها الخاصة المحيطة بها. قد يتجه الممثل نحو النافذة ببطء ظاهري، بينما يكون إيقاعه الداخلي سريعًا ومتوترًا جدًا، لكنه يخفي ذلك لسبب أو لآخر، والعكس صحيح. ويصبح الأمر مركبًا في الأفعال الدرامية الأكثر تعقيدًا؛ فالعاشقة التي تخفي حبّها عن الآخرين ستخفي عنهم لهفتها أيضًا، وكما يقول المثل العربي “يكاد المريب أن يقول خذوني”، فهي -مهما كان بارعة في محاولتها إبعاد التهمة عنها، بإظهار الحياد والبرود- ستثير الريبة والشك، من خلال حركاتها وسكناتها.

قد تكون الحياة مملة مبتذلة ورتيبة على السطع، لكنها مضطربة موّارة في الداخل، كما في مسرحيات أنطون تشيخوف، فالشخصيات تُظهر نوعًا من الاستسلام والتأقلم، لكنها تنفجر أخيرًا لتعبّر عن حقيقتها. وهكذا، نجد أن الإيقاع الخارجي -منفردًا- لا يكفي كي يكون الفعلُ دراميًا، وكذلك الإيقاع الداخلي، لا يمكن التعبير عنه بمعزل عن الحركة الخارجية للجسد. كما أن لبعض الإيقاعات جلال وحرمة لا نستطيع تجاوزها، مثل إيقاع المشي في جنازة، أو في مظاهرة ساخطة، فالسرعة في الأولى تقتل قدسية الموت، والبطء في الثانية يقتل فكرة السخط والاحتجاج! لكن المفارقة أو التضاد، وهو أسلوب محبب في المسرح، قد يسمح لزغرودة أو طلقة بندقية بأن تفجر ذلك الطقس الجنائزي، وتقلبه رأسًا على عقب، من الحزن إلى الحماسة مثلًا، من إيقاع بطيء إلى سريع، وكذلك التوقف المفاجئ وصمت المحتجين، قد يكون أشد وقعًا من صخبهم. كما أن الصفعة المفاجئة، غير المتوقعة من رجل هادئ مسالم، قد تكون أكثر تأثيرًا من صفعة متوقعة. لكن ذلك كله لا يجوز أن يحدث خارج سياق الإيقاع العام، ومن دون تخطيط وإتقان وتبرير فني عميق ومدروس. فـ “كل شيء على الخشبة ممكن، إذا كان مبررًا”.




المصدر
غسان الجباعي