عندما تصبح السلطة ميليشيا



من “حماة الأرض والعرض” إلى الجريمة وتجارة الأعضاء..

أثارت حادثة مقتل ثلاثة شبان في السويداء، ورمي جثثهم عند دوار المشنقة (المكان الذي تُنفَّذ فيه الإعدامات تاريخيًا)، وقد أُرفقت الجثث بورقة من “آل مزهر” جاء فيها: “هذا قصاص كل من يقوم بفعل كهذا”، وببيان من العائلة ذاتها وتسجيلات وصور للشبان الثلاث المعروفين بارتباطاتهم بالأجهزة الأمنية، يعترفون فيها باستدراج فتاة قاصر، عمرها لم يتجاوز 17 عامًا، اسمها “كاترين هيثم مزهر”، وخطفها في أيام عيد الأضحى، وتقطيعها وبيع أعضائها، بالتعاون مع مخبر طبي، وبتسهيل من قائد ميليشيا الدفاع الوطني في المحافظة المدعو “أنور الكريدي”، في نقل أعضائها إلى مدن الساحل السوري؛ أثارت هذه الحادثة تساؤلات عامة في المجتمع، تلخصت في:

ضرورة تشكيل هيئة قضائية مستقلة من أبناء المحافظة المشهود لهم بالنزاهة؛ ليبتوا بأعمال الخطف والجريمة المنتشرة فيها انتشارًا كبيرًا، وذلك بغية تجنيب المحافظة الأعمال الثأرية وعودة الحكم العشائري والعائلي، أمام تراجع كبير للسلطة القضائية المرتبطة بالأجهزة الأمنية وتعليماتها، وتغاضي الأخيرة عن القيام بأي عمل يردع أعمال العصابات المتكرر والمتكاثر في المحافظة. ضرورة ردع أعمال العصابات هذا، بحكم محلي وقانون عائلي يبيح هدر دم كل من تسوّل له نفسه الإقدام على عمل شائن، يُهدد أمن الناس وحياتهم. بينما يذهب طرف ثالث إلى ضرورة تفعيل دور القضاء والسلطة الأمنية، وقد بات تغيّب دور الأخيرة (الأجهزة الأمنية) السببَ وراء انتشار وتوسع أعمال كهذي، لما عانته هذه الأجهزة من ممانعة الشارع الشعبي لعملها في اعتقال المطلوبين للجيش والخدمة العسكرية، حسب زعم مروجيه المنافي للحقيقة.

لم تكن حادثة مقتل الفتاة كاترين الأولى من نوعها، إذ لم يمض شهران فقط على خطف ممرضة من المشفى الوطني، من قِبل عنصر في فروع الأمن أيضًا، واعترف في تسجيلاته بالتعاون مع أفراد من مسلحي ميليشيات “الدفاع الوطني”، وليس هذا وحسب، فقد سجلت حوادث متعددة لاستخدام السلاح في السلب والخطف، بخاصة السيارات، وما نتج عنها من حوادث القتل حين تُقاوم الضحية الخاطفين، وبأكثر من مرة تم استخدام السلاح في عمليات قتل ونهب متعددة وأغراض شخصية محض. كل هذا والأجهزة الأمنية تسحب يدها بشكل كلي من التدخل، بذريعة أنها لا تقوى على إحضار المطلوبين لانتشار السلاح بين أيدي الناس وقيامهم بفك أسره بالقوة، يحدث كل هذا، بينما أجهزة الحرب وصنوفها المتعددة تهدم المدن السورية واحدة تلو الأخرى، من دون رادع أو خوف!

في خلفية المشهد، درجت السلطة ونظامها الأمني في السويداء، منذ بواكير التظاهرات السلمية، على استمالة الشباب المُهمّش تاريخيًا في المحافظة، وهم من فئات غير متعلمة، ومعظمهم من أصحاب السوابق في الجريمة بأشكالها؛ ثم إطلاقهم -كما في كل سورية- ليُغرر بهم بداية في مهاجمة المتظاهرين في نقاط التظاهر التي انتشرت في كل المحافظة، تحت زعم أن المتظاهرين عملاء لأجندات خارجية، وأعداء الوطن أيضًا! لدرجة أنه في شباط/ فبراير 2012 دمّر هؤلاء أكثر من منزل التجأ إليه المتظاهرون في مدينة شهباء بالحجارة، وهم ذاتهم من جُنّدوا تحت شعار واهٍ لاحقًا هو “حماية الأرض والعرض”، في ميليشيات متعددة بدءًا من “اللجان الشعبية” إلى “الدفاع الوطني” إلى كتائب “البعث” و”القومي الاجتماعي السوري”، منهم من بقي في المحافظة، ومنهم من جُنّد خارجها في كتائب وميليشيات متعددة الأسماء والألوان، ومن المفيد التذكير أيضًا بأن مصالحةً جرت، قبل عام من اليوم، في فرع حزب البعث -وهو السلطة الأمنية الأعلى في البلد- تم على إثرها إخراج 635 فردًا من ذوي السوابق بعد أن تعهّدوا بخدمة الوطن، والكف عن سوابقهم الإجرامية، بينما ما يزال معتقلو الرأي يقبعون في سجون النظام، إلى اليوم، ولا يخرجون منه إلا جثثًا، أو بعد دفع دية “رشوة” لقضاة محكمة الإرهاب والمتعاونين معها.

غاية التسليح كانت شعار “حماية الأرض والعرض” الشعار الذي يشبه شعار “أمة عربية واحدة”، في زيفه، والعمل بخلاف مضمونه الوجداني والشعوري، واستطاعت من خلاله سلطة النظام ترويج “أفكارها” بين فئة من شباب المحافظة، كان أهم أدواته الزخم الإعلامي المؤثر عاطفيًا في نفوس العامة ذوي الخلفية الدرزية الموصوفة بالعمق، كحالة وطنية تاريخية، غايتها حماية وجودها “الأقلوي” من أي هجوم خارجي، وفتح بوابات الترغيب بنموذج سفيه بالنفعية، من خلال ارتباط قادات العمل المسلح في المحافظة عبر أذرع معروفة بارتباطاتها الأمنية سيئة السمعة. كل ذلك في سياق واضح لقمع التظاهرات وتسليط ذوي القربى على بعضهم، وتفتيت النسيج الداخلي للمجتمع، ومنع تشكله في كتل عامة سياسية تطالب بحقوقها السياسية والمدنية. وما زاد بالانتشار الكبير للسلاح وفوضاه هو زعم تهديد (داعش) والقوى المتطرفة الأخرى للمحافظة، من دون أن يعلم أحد إلى اليوم سبب اختفائها المفاجئ والسلس، من محيط السويداء الشرقي، بهذه السهولة والبساطة!

تقول حنة أرندت في كتابها (في العنف): “كل انحطاط يصيب السلطة هو دعوة مفتوحة للعنف. أولئك الذين يقبضون على السلطة يشعرون بأن هذه السلطة تفلت من أيديهم، يلاقون على الدوام أكبر قدر من الصعوبة دون مقاومة إغراء استبدال السلطة بالعنف”، فالعنف المتمايز عن السلطة أو قوة السياسة، بحاجة دائمة إلى أدوات مختلفة عن أدوات ممارسة السلطة، كحالة سياسية بمرجعية انتمائها القانوني والدستوري الشرعي في نطاق الدولة، ففعل العنف في جوهره تسيره مقولة الغاية والوسيلة التي كانت ميزتها الرئيسة، فكل غاية تتجاوزها وسائل تحقيقها تصبح عنفًا في ذاتها، وما العمل الممنهج الذي قامت به الأجهزة الأمنية من التسليح إلا لغاية مختلفة عمّا هو معلن، غايته في الجذر هي قمع الحراك المجتمعي السلمي أولًا، ونشر الفوضى ثانيًا، وتدعيم سلطتها عبر أذرع مشبوهة تقوم بكل أفعال الرذيلة ثالثًا، بحيث تبقى هي بمنأى عن الصدام بكل المجتمع الأهلي، كما فعلت بباقي محافظات القطر. فالجريمة من سرقة وقتل وغيرها جريمة موجودة في كل مجتمع، وما تكاثرها اليوم إلا بسب تغذيتها من قبل صناع القرار والمتحكمين فيه بالبلد؛ بغية ترهيب الناس وجعلهم يعودون إلى قبضتها الأمنية مرة أخرى، بخاصة حينما يطالب الكثيرون بعودة العمل بالقانون والقضاء، المطلب الذي ظاهره حق، لكن يعوزه القدرة على فصل تسلط الأجهزة الأمنية عن مؤسسات القضاء أصلًا، وهو المطلب ذاته الذي كانت لأجله الثورة.

إن بقاء ارتباط السلطات القضائية والإعلامية والتنفيذية، وارتهانها للأجهزة الأمنية، سيبقى هو المُولّد لتكاثر وتنامي كل أشكال الجريمة، وبقاء النظام الاستبدادي متحكمًا ومسيطرًا على شؤون الناس وحياتهم ومصايرهم. حيث إن فصل هذه السلطات عن تسلّط الأجهزة الأمنية هو المطلب الحقيقي للثورة السورية، منذ بداية حراكها لليوم، فالأجهزة ذاتها هي التي أشاعت الفوضى في منطقة كالسويداء، لم تشهد عملًا عسكريًا، كما في باقي سورية، وهي ذاتها المتهمة الرئيسة اليوم بترويج المخدرات، وتسهيل عمليات الخطف والسرقة، عبر أذرعها المباشرة التي سلحتها لقمع التظاهرات المطالبة بتحقيق العدالة والانتقال إلى مجتمع تسود فيه العدالة وسيادة القانون.

المجتمع الأهلي في محافظة السويداء الذي وقف على الحياد من مجريات الحدث السوري، إلى اليوم، هو على محك الحدث وفي مفصل مهم في صيرورة أمنه واستقراره، والخيارات المحدودة المطروحة أمامه إلى اليوم تقوده بالنهاية إلى أحد شكلين لا أكثر:

عودته إلى الاحتكام لقانون عشائري أهلي محلي؛ الأمر الذي سيقود -حكمًا- إلى عودة النظام وأجهزته، من خلال ارتباط أجهزته الوثيقة برموز المجتمع وقياداته الاجتماعية المعروفة بولائها له، وذلك بغض النظر عن رغبات الشارع الشعبي. السماح للأجهزة الأمنية بالقيام بدورها، تحت شعار المطالبة بعودة القانون، وبحماية أهلية هذه المرة؛ وهو ما سيجعل السلطة تحقق غاياتها في العودة إلى التحكم بالمجتمع، عبر أهله ذاتهم.

يبقى السؤال الحاضر: ألم تتشكل بعدُ في وعي الناس عامة إلى اليوم، ضرورات العمل على فك ارتباط الأجهزة الأمنية بسلطة القانون والقضاء، والبحث في كيفية الوصول إليه؟ وليس مستغربًا أبدًا أن تكون الإجابة عليه صعبة ومريرة، لأنه السؤال المحوري ذاته القائم في سورية حتى اليوم، حول تشكيل هيئة حكم انتقالي تحد من صلاحيات الأجهزة الأمنية وتغولها في المجتمع، والذي باتت بوابات جنيف لا تقفل أمامه إلى اليوم وللمرة الثامنة والتاسعة، من عمر المذبحة السورية؛ ما يطرح على الواقع المحلي بالمحافظة، وعموم سورية، السؤالَ المركزي في ضرورة المواطنة وسيادة القانون وتحقيق العدالة. إذا بقي محور القضية السورية هو هدم الاستبداد وتقويض دور أجهزته الأمنية هي القضية المركزية، في أي عملية سياسية ممكنة قادمة؛ فسننجح بتجاوز هذه المرحلة، وإلا فسيبقى كل المجتمع السوري، المشتت منه، أو المُدّعى حمايته زيفًا كما السويداء، رهينَ الاستبداد والعنف وتآكل الحقوق وقضمها لمصلحة المتنفذين والمرتبطين بهم وفقط.

قُتلت كاترين، كما قُتل عشرات الآلاف من السوريين من قبل وبأدوات مختلفة، وشعارُ “حماية الأرض والعرض” الذي كان يومًا منارة وطنية، حملت سلطان الأطرش لقيادة الثورة السورية ضد الفرنسين، وهو الشعار ذاته الذي قضت على إثره قيادات حركة رجال الكرامة، حين تصدّوا لتغوّل الأجهزة الأمنية، قبل عامين، أصبح اليوم شعارًا عاريًا عن أي قيمة وطنية فعلية، ما دام يتحكم به القتلة والبلطجية، إذ تنقلب كل المعايير الوطنية والأخلاقية، وتصبح أدوات الجريمة ذاتها غايةً بحد ذاتها، عند المتحكمين بها والمستفيدين منها.




المصدر
جمال الشوفي