الحل الروسي في سورية ضمانة لـ “إسرائيل”



لم تغب “إسرائيل” عن المشهد السوري، منذ الأيام الأولى للثورة، إذ شكّل النظام السوري -طوال عقود- صمّام الأمان لـ “إسرائيل”، بالرغم مما يدّعيه ويرفعه نظام الأسد من شعارات الممانعة والمقاومة، ولسنا الآن في مقام تعداد الخدمات الجليلة التي قدمها الأسدُ لـ “إسرائيل”، من خلال سحق المقاومة الفلسطينية، وتمزيق البيت الداخلي في لبنان وسورية والمحيط العربي؛ لذلك فَهِمَت “إسرائيل” جيدًا تصريح رامي مخلوف، في بداية الأحداث السورية: “لن يكون هناك استقرار في (إسرائيل) إذا لم يكن هناك استقرار في سورية”.

لا نأتي بجديد، عندما نقول إنّ “إسرائيل” هي المستفيد الأكبر من دمويّة الأحداث وإطالتها، ولا نجانب الصواب، حين نقول: إن “إسرائيل” تفضّل بقاءَ بشار الأسد في الحكم، على أي سلطة جديدة؛ لأن بقاءه يعني استمرار الصراع الداخلي السوري، واستمرار سورية بلدًا ضعيفًا. وهذا ما يفسر تصريح وزيرة العدل الإسرائيلية (إياليت شاكيد)، خلال المؤتمر الدولي السابع عشر لمكافحة الإرهاب المنعقد في مدينة هرتزليا قرب تل أبيب: “إنّ على بشار الأسد إخراجَ إيران من سورية، إذا أراد البقاء في السلطة”.

يدرك الأسد جيدًا هذه الحقيقة، فـ “إسرائيل” تقبل باستمراره، وفق الشروط السابقة التي حكمت العلاقة بينهما، لكنها لا تقبل بالوجود الإيراني العسكري المماثل للوجود الروسي، فـ “إسرائيل” ترى في القواعد العسكرية الإيرانية تهديدًا لأمنٍ تنعمت به عقودًا، ويفهم الأسد أن الغارات الإسرائيلية التي استهدفت سورية -على اختلاف أسبابها- تشترك في رسالة سياسية واحدة مضمونها: أنّ “إسرائيل” حاضرة في المشهد السوري، وتُراقب ما يحدث وترسم ما سيحدث. وهو ما جعل الخبير الإسرائيلي (تسفي برئيل) يقول: إن الهجوم الجوي الإسرائيلي الأخير جعل منها شريكة في إنشاء النظام السوري الجديد.

ضغطت “إسرائيل” لمنع الولايات المتحدة من تسليح المعارضة السورية بما يقلب الموازين؛ ذلك أنها تعرف أن التعامل مع نظامٍ يحارب بالشعارات أفضلُ من التعامل مع المجهول، فهي لا تأمن أن يحقق لها النظام الجديد ما حققه نظام الأسد، عبر عقود مضت، وتخشى أن يحقق النظام الجديد نهضةً لسورية، تنعكس على المحيط العربي.

وتنسجم المساعي الإسرائيلية مع الرؤية الروسيّة للحل النهائي في سورية، فقد تعهدت روسيا للولايات المتحدة ودول الإقليم، بإخراج الميليشيات الطائفية من سورية بداية، وإنهاء النفوذ الإيراني، ولا سيما العسكري، لاحقًا، وهذا ما يفسر تسارع الأحداث العسكرية على الجغرافية السورية، والتسهيلات التي تقدمها الولايات المتحدة لروسيا، كالطلب من الثوار في البادية الانسحاب والتراجع إلى الأردن، وكالتخلي عن دعمهم في معركة دير الزور، فطلب الولايات المتحدة انسحاب الثوار جاء بالتنسيق مع روسيا، ومعلوم أن ذلك جاء بعد المباحثات الأردنية الروسية، وغير خافٍ على أحد تناغم المعارك العسكرية في مدينة دير الزور، بين روسيا والولايات المتحدة، فالطرفان متفقان على إنهاء (داعش) بداية؛ للتفرغ للحل السياسي المناسب لهما ثانيًا، على الرغم من التنافس في رسم الجغرافية الجديدة.

يلاحظ المتابع مساعي روسيا لملء الفراغ الذي سينتج عن خروج إيران وميليشياتها، ضمن الحل السياسي، فالروس يعملون على خطين: خط نشر الجنود الروس على الجغرافية السورية، عبر القواعد والنقاط العسكرية في نقاط التماس مع الثوار، كما هو الحال جنوبًا وشمالًا. والخط الثاني، وهو الأهم، يتمثل بنقاط خفض التصعيد التي هدّأت الجبهات، ما يمهد لفرض الحل السياسي الذي اتفقت عليه الدول الفاعلة.

تستشعر إيران حجمَ الخطر القادم الذي يستهدفها، ويستشعر الأسد ذلك؛ لأنّه يؤمن أنه الراحل الثاني بعد إيران في حال خروجها، فبإمكان الروس التحالف مع غيره خلافًا للإيرانيين، وهذا ما يفسِّر سعي الأسد وإيران لإبرام اتفاقات عسكرية على غرار الاتفاقات الموقعة مع روسيا، اتفاقات تدعم الوجود العسكري الإيراني في سورية، وفي هذه النقطة المفصلية، تتباين الرؤية المستقبلية لسورية بين الطرفين؛ فالروس يسعون للإبقاء على هيكل النظام العام دون التمسك برأس الهرم، بينما “إسرائيل” تكترث بخروج إيران فحسب.

الرؤية الإسرائيلية تُرَكِّز على بقاء سورية بلدًا ضعيفًا، يتحكم فيه الاستبداد وينخر فيه الفساد، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا ببقاء الأسد، أما الروس فيركزون على حل سياسي يزاوج بين المعارضة والنظام، يضمن مصالح الروس المستقبلية سياسيًا وعسكريًا، وقد قطع الروس أشواطًا في هذا المسار؛ فباتت روسيا المهيمن الوحيد على الحل السياسي السوري، وفق ما قالت المعارضة السورية نفسها.

ويحقق الحل الروسي مطلب “إسرائيل” الثاني المتضمن تحجيم النفوذ الإيراني العسكري والسياسي في سورية، دون أن يحقق ضمان بقاء الأسد بالسلطة، مع ضمان مصالح إيران الاقتصادية، ولا يمكن تحقيق هذه المعادلة الروسية الضامنة لمصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين، إلا عبر الحكم الفيدرالي، ولا بأس هنا في بقاء الأسد على رأس السلطة، لكنه سيكون بلا مخالب.




المصدر
جلال زين الدين