كسور الجسد




تلخّص مفردتا “الإقناع” و”الإكراه” أشكال العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العالم، منذ أن بدأت السلطة حتى يومنا هذا، واللافت أن تكون كلمة الإقناع قد ارتبطت بالعقل، وأن تكون مفردة الإكراه قد ارتبطت دائماً بـالجسد.

أما الإقناع، فالظاهر أنه أسلوب في الحكم لم يعتمد على الصعيد العالمي إلا مؤخراً. يمكن أن يرتبط وجوده بـانتصار الديموقراطية بكافة أشكالها، ونجاحها في خلق أساليب للحكم لا تتبع أساليب عنفية في مواجهة المطالب الاجتماعية أو السياسية للمواطنين.

الطريف أن تكون السلطة قد أُرغمت على اتباع أساليب الإقناع في السياسة، من قبل القوى الثائرة ضدها. وأن تكون تلك القوى قد مارست، في الثورات خاصة، أشكالاً عديدة من المقاومة، من بينها الإكراه الجسدي ضد الحكّام، مثل إعدام الملوك زمن الثورة الفرنسية، أو الروسية، واستبدالهم بآخرين يختارون الديمقراطية كوسيلة إقناع في الممارسة.

وهذا هو الفارق بين المقهورين وبين الطبقات المسيطرة، التي كان هدفها في كل مكان، وكل زمان، ممارسة الإكراه الذي يضمن لها استمرار الحكم، وسيادة الصمت، وقمع الرأي الآخر.

ويبدو أن الجسد هو الأكثر تضرراً من الناحية المادية، والمعنوية. وهنا تظهر السلطة نبوغاً غير عادي في ممارسة الإكراه الذي يحمل اسماً صريحاً آخر هو: التعذيب. أو القتل المباشر كما حدث في مواجهة الأنظمة العربية للثورات.

والتعذيب هو الوسيلة الرخيصة المتوفرة بكثرة في تجارة السيطرة. حين تسعى السلطة من خلاله إلى قهر الجسد، أملاً منها في قهر العقل. ومن حيث الظاهر يمكن أن يتمكن الجلاد أو السجان من إرغام أي جسد، أو عقل إنساني، على الاستسلام. واستسلام الجسد يمكن قياسه والتأكد منه بالعين المجردة. غير أن من الصعب على أي قوة أن تتمكن من قياس التغير في العقول.

وقد مارست الديانات أشكالاً مشابهة حين تمكنت من الاستيلاء على السلطة السياسية، فمن يعلن إيمانه، أي قناعته العقلية بالدين، ينجو، ويترك، حتى لو كان منافقاً، كما يسميه الدين، أو انتهازياً، كما تطلق عليه السياسة، بينما يقتل جسد الذين يرفضون الانصياع، بوسائل مختلفة: قطع الرقاب. الجلد. الرجم.

أما الروايات التي قاربت موضوع السجن، في الأدب العربي، فقد أهملت أهمية الجسد الإنساني كمعطى معادل للعقل، وأخذت أمر التعذيب على أنه إجراء عنفي يقصد منه أن يكسر العقل، وكانت مفردة “الروح” تستخدم في الغالب على أنها الممثل المجازي أو الرمزي للعقل، فيقال إن التعذيب، أو الأعمال العنيفة التي تتخذها السلطة في أي شارع أو سجن عربي، إنما يقصد منها إكراه الروح على الاستسلام، باتخاذ التعذيب الجسدي وسيلة أو طريقاً إلى ذلك.

وفي هذا المجال اعتبرت الروايات التي قاربت موضوع التعذيب، أن الصمود الذي يظهره السجناء، في مواجهة التعذيب، مثل عدم الاعتراف، أو رفض التوقيع أو الامتناع عن التنازل لإرادة السجان، إنما هي خصال روحية لدى مثل هؤلاء البشر، وليست صموداً جسدياً.

وهنا قد يبدو أن مثل هذه الروايات تعتبر الجسد البشري معبراً، أو قميصاً خارجياً، لا دور له سوى الحفاظ على الروح والعقل صامدين.




المصدر