الأكراد وحق تقرير المصير



بعد أيام، قد يُجري إقليم كردستان العراق استفتاءً على استقلاله، ويُعيد بذلك القضيةَ الكردية -بكل تعقيداتها وإشكالاتها- إلى واجهة الأحداث؛ ويضع دول المنطقة التي يتوزع الأكراد على أراضيها، كما حكومة الإقليم -إن لم تتراجع في اللحظة الأخيرة عن قرارها- في مواجهة خيارات صعبة وأمام احتمالات تصعيد، قد تؤدي إلى مزيد من المواجهات والعنف والاضطرابات.

للشعوب حق في تقرير مصيرها، هكذا تقول الشرائع الدولية، لكن دول المنطقة، إذ تعترف بهذا الحق للفلسطينيين، تنكره في الوقت نفسه على الأكراد، في حين تنفرد “إسرائيل” التي تحتل الأراضي الفلسطينية، بدعم الاستفتاء على استقلال الإقليم الكردي. المفارقة أن ازدواجية كتلك ليست حكرًا على الشرق الأوسط فحسب، فالحكومة الإسبانية تسخّر كل ما في جعبتها، من أدوات سياسية واقتصادية وقضائية وأمنية، لردع الإقليم الكتالوني عن المضي في استفتائه المقرر في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر القادم، كما أن الاتحاد الأوروبي الذي يفترض به أن يكون أحد أعتى المدافعين عن الحريات والحقوق، بما فيها تلك المتعلقة بتقرير المصير، كان قد تواطأ ضمنًا مع الحكومة البريطانية، في وضع العراقيل أمام استقلال اسكتلندا، قبل عامين، من خلال رفضه انضمام أدنبره  -في حال استقلالها- تلقائيًا إلى عضويته، وكان ذلك رسالةً إلى الكتالونيين أيضًا وغيرهم في عموم القارة.

واقع الحال، أن شأنًا كتقرير المصير هو أمرٌ لا جدال فيه، من ناحية قيمية وأخلاقية، لكنه من حيث الممارسة والتطبيق أمرٌ تتنازعه عوامل سياسية واقتصادية واستراتيجية وأمنية، لا تكون عادة في صالح الشعوب التي تُنادي باستقلالها. تميل معظم الدول، في المقابل، إلى إخضاع الأقاليم ذات النزعات الانفصالية إلى حكمها، بوسائل وأساليب وأدوات تختلف، بحسب طبيعة نظام الحكم، كما تلعب عوامل، كالتاريخ والجغرافية والمحيط الإقليمي، دورًا مهمًا في دعم أو كبح نضال الشعوب من أجل استقلالها.

لا يقتصر وجه الشبه بين القضيتين الفلسطينية والكردية على أحقيتهما وعدالتهما، فكلتاهما مزمنة تعود جذورها إلى القرن المنصرم وما تزال مستعصية إلى يومنا هذا، كما لا يُبشّر المستقبل المنظور بحلول لهما. استقلال الأكراد، أو حتى تحقيقهم لبعض المكاسب، في إحدى الدول التي يتوزعون على أراضيها، إيران تركيا العراق وسورية، يُهدد برفع سقف الطموح لدى الأكراد في الدول المجاورة، وهو ما تعدّه العواصم المعنية تهديدًا لأمنها القومي. بالنسبة إلى فلسطين، فإن معارضي حل الدولتين في تل أبيب غالبًا ما يتذرعون بالهاجس الأمني والانكشاف الاستراتيجي من ناحية عسكرية لحدودها الشرقية (حدود 1967)، ولذلك يلجأ اليمين الإسرائيلي إلى دعم الاستمرار بالاستيطان، في عملية هروب إلى الأمام.

طالما كان الحق الفلسطيني مجرد ورقة في جعبة أنظمة مستبدة كنظام الأسد وصدام حسين وملالي إيران، في حين تأمل “إسرائيل” أن يكون قيام دولة كردية معزولة ومحاصرة من جيرانها سببًا لتجد تلك الدولة في تل أبيب حليفًا لها، ومن ناحية استراتيجية، فإن أهمية فلسطين هي في حدودها مع “إسرائيل”، وأهمية كردستان العراق هي في حدودها مع إيران.

مفاد الكلام، أن حق الشعوب بالحرية والاستقلال شيء، وقدرتها على تحقيق ذلك شيءٌ آخر تمامًا، وبالتأكيد ليست كردستان العراق استثناء، وخصوصًا أن العراق وتركيا وإيران تملك ما يكفي من الأدوات والذرائع لخنق الإقليم اقتصاديًا، وتهديد استقراره أمنيًا وعسكريًا، في حين أن واشنطن ودولًا أوروبية -وإن كانت تُقر ضمنًا بحق الأكراد في الحصول على استقلالهم- لا ترى الظرفَ الحالي في المنطقة مناسبًا للخوض فيه، وذلك من زاوية الحرب على (داعش) التي قد تستفيد من التوترات في إعادة تجميع صفوفها، خصوصًا في حال تطورت الأوضاع إلى اشتباكات أو حتى مواجهات عسكرية.

بين كردستان العراق واستقلالها، مطبات وعقبات إقليمية ودولية وداخلية يصعب تجاوزها في المدى المنظور، لكن الاستفتاء يُسلّط مزيدًا من الضوء على القضية الكردية في العراق وسورية، وعموم المنطقة التي لا تتوفر فيها الحدود الدنيا للعدالة، سواء تعلّق الأمر بالأكراد أو الفلسطينيين، أو النضال ضد الاستبداد في سبيل بناء دول مواطنة، تضمن حريات مواطنيها وكرامتهم ورفاههم المادي والمعنوي، وصولًا إلى نظام إقليمي مستقر، يضع حدًا للتوترات والتقلبات العنيفة وحروب الوكالة في دوله الهشة.

مشكلات المنطقة كثيرة ومُعقدة ومُركبة، لكن الاعتراف بالحقوق والتعاطف مع القضايا العادلة، هو أساس قيمي وأخلاقي لبناء وجدان جمعي قادر على تفكيك الأزمات، واجتراح حلول قابلة للحياة، بالاستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين، بكل ما فيها من دماء ودموع، لكن في المقابل، فإن الأمر مرتهن بإرادات سياسية تعمد إلى توجيه الطاقات والموارد باتجاه حل الأزمات، وليس الاكتفاء فقط بإدارة الحرائق وتهدئتها، من دون إزالة الظروف التي أدت إلى اشتعالها.




المصدر
طريف الخياط