سؤال يتهيب العربي الإجابة عليه



كانت السيدة العجوز الأنيقة تجلس في المقعد الذي أمامي، ثم التفت نحوي لتسألني عن الحافلة التي نركب على متنها إن كانت ستوصلها إلى بيت ابنتها في مدينة الإسكندرية الأميركية؟ وأردفت: من أين أنت؟ أجبتها: من سورية؛ فأظهرت حزنها على السوريين. سألتها: وأنتِ؟ قالت: من الفلبين؛ فأظهرتُ حزني أيضًا. مثل هذا السؤال يوجهه الإنسان للإنسان، في كل مكان، وقبل أن يتعرف إلى اسمه ودراسته ومواهبه وعمله، هو سؤال يعني: ما هويتك؟ بل من أنت؟ ثم يرسم على ضوئه فكرة عن شخصيته، هي لا تعرف عن سورية أكثر مما تشاهده في وسائل الإعلام: فهناك مدن مدمرة، ولاجئون هائمون على وجوههم في البراري، أو مُكدّسون في قوارب تتلاعب بها أمواج البحر، فتقلبها ويغرق من فيها، وأعلام سوداء يرفعها أشخاص يثيرون الرعب بلحاهم الكثة الطويلة ولباسهم الأفغاني.

من أين لها أن تعرف أن هذه البلاد كانت محطة الحضارة الأولى للبشرية، وكذلك الأمر بالنسبة إلي، فقد قفزت إلى مخيلتي صورة حشد من الخادمات الفلبينيات في مطار عربي، ومجموعة من الرجال يتفحصونهن لينتقي كل منهم ما يناسبه لخدمة زوجته وأطفاله، وكنت علمت أن الشرق العربي وحده يستخدم مليوني عامل فلبيني، معظمهم من الفتيات الخادمات، ولم يخطر لي أنّ جزر الفلبين الـ 7107 استطاع اقتصادها أن يحتل المرتبة 48 عالميًا، وأن الناتج المحلي للبلاد وصل إلى 161 مليار دولار عام 2009.

نعود إلى السؤال: من أين أنت؟ وما يُثيره الجواب في خيالنا من مشاهد، لا تُعبّر بالضرورة عن هوية الشخص الذي نسأله، وذلك بسبب فساد الأنظمة التي تحكم البلد الذي ينتمي إليه. سنغافورة على سبيل المثال، واسمها الرسمي جمهورية سنغافورة، تقع في جنوب شرقي آسيا، عند الطرف الجنوبي من شبه جزيرة ملايو، ويفصلها عن ماليزيا مضيق سنغافورة، عند جزر رياو الإندونيسية، سنغافورة هذه تُعدّ اليوم رابع أهم مركز مالي في العالم، ويعد مرفأ سنغافورة خامس مرفأ في العالم، من ناحية النشاط التجاري. وهي استقلت عام 1969 عن بريطانيا، وفي عام 2006، سمّت شركة (أي تي كيرني) جمهورية سنغافورة “الدولة الأكثر عولمة”، وفي مؤشر جودة الحياة التي تنشره مجلة (الإيكونوميست)، حصلت سنغافورة على الدرجة الأولى في آسيا، والمرتبة الحادية عشرة على مستوى العالم. وهي تمتلك تاسع أعلى احتياطي نقدي في العالم، ولدى الدولة جيش وطني مُجهّز تجهيزًا جيدًا، ويعتمد على أحدث الأسلحة، ووفق مؤشر القيود هينلي فيزا لعام 2014 احتل الجواز السنغافوري المركز السادس على مستوى العالم، حيث يمكن لحامله دخول 167 دولة دون فيزا مسبقة؛ وهذا يعني أن السنغافوري، عندما يجيبك على سؤالك من أين أنت، يعرف مسبقًا أنه سيلقى منك ردة فعل إيجابية، بمجرد أن يقول: أنا من سنغافورة.

على العكس من السوري، والصومالي، والفلبيني، والسيريلانكي، ومعظم دول أميركا اللاتينية، ودول القارة الإفريقية، والدول العربية. في مثال سنغافورة ما يُثير الدهشة، عندما نعرف أنها دولة صغيرة المساحة، وأن معظم أراضيها كانت مستنقعات آسنة، ولا تملك ثروات نفطية أو معدنية، وأن الاتحاد الماليزي طردها بعدما كانت جزءًا منه، كي لا تكون عالة عليه، فيما تمتلك كل الدول العربية -من دون استثناء- كل مقومات النهضة بثرواتها الطبيعية والبشرية، لكن فساد معظم حكامها جعل منها دولًا متخلفة ضعيفة تستورد طعامها ولباسها وأسلحتها، وكل مستلزمات حياة شعوبها من الدول المتطورة.

هذا التخلف والضعف ساهم، بحكم الضرورة، في إفقار الشعب، وتجهيله، وتغييبه عن حركة النهضة والتطور التي تسود العالم المتحضر؛ ما أدى إلى انتشار الأفكار المتطرفة والسلوكيات الهمجية التي ظهرت في قمع المرأة والطفل على المستوى الأسري، وقمع الشعب كله من قبل سلطة الدولة الشمولية.

يقول المفكر السوداني مجتبى سعيد عرمان في مجلة (الراكوبة) السودانية: “تقوم نهضة الدول على التخطيط العلمي، بعد استقراء المستقبل على مستوى الدولة والمجتمع، كما هو الحال في الدول المتقدمة، وبالعمل ليل نهار على تحقيق النمو المطرد، ومكافحة الفساد، وتطبيق القانون على الجميع، من خلال فصل السلطة القضائية عن الحكومة والرئاسة. إن خطب الزعماء العرب تتسم بالجهل والتخلف، وكأنهم لم يسمعوا بالحضارة التي تعم العالم المتحضر، إنهم يخوضون طوال الوقت حروبًا لا تنتهي مع شعوبهم، بشتى الطرق الأمنية المزرية التي لا تمت إلى الإنسانية بصلة، ويصل بهم الأمر إلى تدمير أوطانهم على رؤوس شعوبهم، ليبقوا في السلطة دون وازع وطني أو أخلاقي”.

انظروا إلى ترتيب جواز السفر السوداني في قائمة جوازات السفر المقبولة عالميًا بدون فيزا، إنها المرتبة الوضيعة 98، إن جواز السفر المقبول عالميًا دون شرط الفيزا يُعدّ مؤشرًا بالغ الدلالة على مستوى احترام تلك الدول لحامل ذلك الجواز ولبلده، وتأتي بعد السودان بالترتيب جوازات سفر ليبيا المرتبة 99 سورية 100 الصومال 101 العراق 102 في آخر القائمة.

بعض الشباب الهاربين من جحيم تلك الدول المارقة إلى الدول المتطورة، يتهيّبون الإجابة على السؤال: من أين أنت؟ خصوصًا عندما يكون السائل مواطنًا أصليًا، هم يخافون من ردة فعله التي قد لا تحمل الاحترام والتقدير لشخوصهم بما يستحقونه، وكثير منهم يُغيّرون أسماءهم، ومنهم من يزعم أنه من أصل أوروبي أو أميركي، ليتفادى تلك النظرة الدونية له، وهو يشعر في قرارة نفسه أنه مُحقّ في ذلك، طالما أن نظام بلده لا يمثله.




المصدر
توفيق الحلاق