زمن الضمّ والفَصلٍ والانفصال…



كان القرن العشرون زمن الضمّ والانضمام والفَصل والانفصال: نيل بعض البلدان العربية وغير العربية استقلالها، كلبنان وسوريا ومصر والعراق وتونس والجزائر. لحظة استقلالية عادت فيها الشعوب إلى حكم بلدانها، بعد زمن طويل من الاستعمار الفرنسي والإنكليزي والعثماني. لكنّه كان أيضاً زمن الانفصالات الكبيرة من كوريا واحدة إلى كوريتَين، ومن فيتنام إلى فيتنامَين، ومن الهند إلى الهند وباكستان، ومن فلسطين إلى كيانَين فلسطيني وإسرائيلي عبر قرار التقسيم. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد المنظومة الشيوعية انفصلت دول هذه المنظومة لتعود إلى «استقلالها»، من بولونيا، إلى جيورجيا، إلى الشيشان والمجر… إنها عودة الأراضي إلى شعوبها، بعد الاتفاقات التي تمت بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بتقاسم هذه البلدان، أي السوفيات وفرنسا وانكلترا.. لكن القرن العشرين كان أيضاً عصر «الضم».. والعصر الاستردادي معاً: فإيران كرّست استعمار الأهواز العربية، وكذلك الجزر العربية الثلاث طمب الكبرى وطمب الصغرى وجزيرة أبو موسى، باعتبار أنّ الخليج ليس عربياً بل فارسي! وما زالت كلها حتى الآن تحت الهيمنة الاستعمارية الإيرانية.
وضمّت إسرائيل، متجاوزة اتفاقات الأمم المتحدة أجزاء من ثلاث دول عربية: الأردن، ومصر، وسوريا. إنه الاحتلال في زمن الاستقلال. كأنما بدا مسار الزمن هنا معكوساً.. وما زال الجولان وما يسمّى إسرائيل والقدس الشرقية في الأيدي الإسرائيلية، وما زالت تمعن إسرائيل في سياستها التوسعية: هوّدت الجولان، وها هي تسعى إلى تهويد القدس التي يعتبرها الفلسطينيون عاصمتهم الأبدية.
لكن، ومن خلال هذه المفارقات برز في القرن الحادي والعشرين تعطش الامبراطوريات السابقة إلى استعادة أمجادها، واسترجاع ما تحرر من سطوتها على بعض البلدان.
صحيح أن مشروع «إسرائيل الكبرى» قد سقط، لكن ليحل مكانه مشروع «الهلال الإيراني»، بطموح هذه الأخيرة إلى تقسيم المنطقة، وفصلها، وتدميرها، تمهيداً لغزوها. وهذا ما يفسّر حروبها على لبنان (عبر حزبها المسلح) وعلى اليمن، والعراق، وسوريا، والبحرين. فمطامعها تجاوزت الخليج إلى ما هو أبعد منه: إلى الورقة الفلسطينية، نفسها، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الجنوب وبيروت والشمال، وها هو حزبها يحل كمقاومة محل المقاومة الفلسطينية!
] الامبراطورية العثمانية:
وها هي الامبراطورية العثمانية مع أردوغان (وزمن الخلافة «المدنية») تستفيق بهواجس وكوابيس وأحلام لاسترجاع «حضورها»، واستعادة «تاريخ» مجيد! وقد لا يكون ذلك وقفاً على حروب الاسترجاع، بل محاولة لزرع وصايات لها، في سوريا، (مستفيدة من الحروب هناك)، ومِصر عبر وصول الإخونجي مرسي إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات نظّمت بعد ثورة الشعب على حكم حسني مبارك. ثم الثورة المضادّة وإسقاط الرئيس الإخواني. ولا تكتفي «الخلافة المدنية» بمِصر، بل تتوغل عبر بعض الميليشيات وجيشها مباشرة، وتحتل أجزء من سوريا (نحو 2000 كلم مربع). ولأنه زمن عودة الامبراطوريات الآفلة، ها هو بوتين، أيضاً يريد أن يحل محل القيصر ويستعيد مجد روسيا، بضم بعض البلدان التي استقلّت عن الاتحاد السوفياتي بالقوة، من الشيشان إلى جيورجيا، والقرم، وتهديد بولونيا وبلدان أخرى من المنظومة السوفياتية السابقة. بوتين سوفياتي بلباس أرثوذكسي، وقد نجح عبر تدخله العسكري في سوريا، في إنقاذ نظام بشار الأسد، وبإقامة قواعد بحرية وعسكرية في بعض المناطق السورية، وانتزع قرار الحرب والسلم من الشعب السوري، وتمكّنه من إضعاف الوصاية الإيرانية وميليشياتها (حزب الله، وفيلق القدس، والحرس الثوري)، خسرت إيران وحلفاؤها ما ظنت أنه بات في قبضتها، أي التحكم المباشر الوحيد بسياسة البلد العربي. ولم تكتفِ روسيا بوتين باستعادة بعض «مشاعات» السوفيات السابقة، بل تخطّت ذلك، إلى اجتراح دور لها، في أوروبا الديموقراطية، وصولاً إلى أميركا: أسقطت باختراقها الخطوط السرية السيبرنتية الأميركية، لهيلاري كلينتون، وحاولت إفشال ماكرون، فصدّها وعي الشعب الفرنسي..
سبقت روسيا الدور الأميركي المتخاذل مع أوباما إلى الشرق الأوسط، والى قلب الولايات المتحدة، وفرنسا، بحيث بات لها مواقع في السياسات المتصلة بهذه البلدان.
] زمن آخر:
ولكنْ هناك زمن آخر موازٍ .. من زمن الفصل، إلى زمن الانفصال، ومن زمان الوصل إلى زمان الفصل: ظواهر تاريخية، تريد ترتيب أمورها بنفسها: تعيين حكومة الإقليم الكردستانية استفتاء شعبياً في أراضيها، للانفصال عن العراق، وتجاوز الحكم الذاتي إلى الاستقلال، جمهورية كردية في كردستان، تكسر كل الاتفاقات السابقة مع نظام صدام حسين، ومع إيران و..(بنفس أوجلاني)، ومع سوريا، ومع تركيا، ثلاثة بلدان تتقاسم حقوقها بالاستقلال؛ أي نحو 30 مليوناً من الأكراد موزعين بين سوريا، وإيران وتركيا، (ولبنان الأقلية الكردية متطبّعة في هذا البلد شأن الأقليات الأخرى السريانية، والكلدانية والأرمينية..).
لكن هبَّ «العالم» ليُدين هذه الخطوة الاستقلالية: إيران، وتركيا والعراق هدّدت باللجوء إلى الحرب لمنع كردستان من إجراء استفتائها. بوتين والسعودية والخليج والأمم المتحدة طالبتها بتأجيل الاستفتاء. حتى الآن، الأمور قيد التفاوض، والسؤال: هل تتراجع كردستان أم تكمل وسط المعارضات الإقليمية والدولية. لكن سواء استمرت في خطوتها، أم أجّلتها، فهذا لا يبيد فيروس الاستقلال. لكن يبدو أنها اختارت رهان الاستفتاء.
لكن هذا النزوع إلى الانفصال، أدرك أيضاً إسبانيا. فالكاتالونيون أيضاً يريدون الانفصال عن نظامهم اسبانيا، وها هم يهددون أو يحضّرون لاستفتاء الاستقلال. وقد صدرت تصريحات وإن عابرة بمطالبة الكاليفورنيين بالانفصال عن الولايات المتحدة. ولكن هذه النداءات خفتت بسرعة. وهذا لا يعني أنها انطفأت: فالجمار تحت الرماد. (ومن يعلم). وزمن المفارقات، والمصادفات، والاستعارات؛ يتحرك في اتجاهات متناقضة ومتصادمة: من امبراطوريات بائدة تريد أن تحيي ما فيها من رميم وأخرى تسعى إلى التفكيك، والانفصالات؛ أبطال جدد على المسرح السياسي العالمي، آخرهم «رجل» كوريا الشمالية الذي يهدد العالم بقنبلته الذرية، والشطر الآخر من البلد بالإبادة.
وهناك ما يذكر بهيروشيما، وهتلر، وستالين، وماو والمغول، والاستعمار القديم؛ منظومات تتصدع من الداخل: أوروبا (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، مطالبة أفرقاء فرنسيين، ومجريين، يهتدون بالمسار البريطاني بالخروج من أوروبا. العولمة كأنما باتت وراءنا. وكذلك الديموقراطيات. وإنجازات النهضة والتنوير؛ فإذا كان العالم بات «قرية عالمية» (بفضل العولمة) فهذه القرية انتصفت بين الماضوية والانزوائية، والأفكار القومية المتطرفة، ونزعة الخروج من الاتحادات الكبرى، والفوضى، والفقر، وحروب الغاز، والنفط، والماء. لم تعد قرية. بل صارت مجرد هيولى تجريدية تفترسها التكنولوجيات العسكرية والاقتصادية، والمالية. بل، ويمكن القول، إن هذه «القرى» العالمية، زفرت نزوعات الانطواء، والكانتونية، والمذهبية، والعنصرية. فإذا كان القرن العشرون هو عصر اليوتوبيات والايديولوجيات المادية بكواليسها «الدينية»، فالقرن الحادي والعشرون هو عصر الطوائف والنزوع والتهجير والسدود والجدران.
] حركة التاريخ:
ما من عصر متجانس. وما من حركة تاريخ واحدة. ولا من تاريخ ينتهي ملغىً ليبدأ آخر. (نظرية فوكوياما المرتدة مردودة). ولكن في خضم هذا الجنون والحُمى والغليان والطغيان كأنما هامش ما مضيء ارتسم.
هذا الهامش اسمه الربيع العربي. لا يشبه في بداياته أي ثورة أخرى.. هبت الناس بتزامنات متوازية ضد حكامها وطغاتها بطريقة سلمية، في تونس ومصر وليبيا وسوريا، واليمن… وصولاً إلى إيران.
لكن يمكن القول إن ثورة الأرز مهّدت لها، وأخرجت بالتظاهرات لا بالسلاح، جيش آل الأسد من لبنان بعد ثلاثين عاماً من أبشع الوصايات والانتدابات، فالربيع العربي نجح في تونس، وفي مصر. لكن الانقضاض المعاكس جاء من أنظمة تشبه نظام آل الأسد، هبّت إيران وأرسلت حزب الله طائعاً لإنقاذ الأسد. نتنياهو أعلن أن سقوط النظام كارثة على إسرائيل، وعندما عجزت إيران استنجدت بروسيا، فلبّت النداء عجولاً.
] واليمن:
هذا ما حصل في اليمن عندما عملت إيران، بأدواتها الحوثية على تخريب انتفاضة اليمنيين، وتحويلها فتنة مذهبية. وليبيا أوقعت في المطب ذاته. لكن إرادة الشعوب العربية، وسط ما يجري من تفككات في العالم، وظواهر عنصرية، سجلت نقطة ليس فقط في الإطار العربي، بل العالمي. ثورة سلمية، سياسية، اجتماعية استقلالية، في وقت غرقت أوروبا في تراجعاتها. ولأنّ هذه الثورة العربية ديموقراطية، فقد اجتمع العالم كله عليها… وحوّلوها من ربيع إلى خريف، ومن فردوس إلى جحيم.
وإذا كان كل طغيان يتماهى بالاحتلال، (احتلال بلده كما حال آل الأسد) فإن معركة ثوار سوريا السلمية في بداياتها كانت استقلالية – سيادية تماماً كما ثورة الأرز: توق لا محدود إلى الحرية، والتحرر، والمقاومة الحقيقية، واسترجاع قرار الشعب حكم البلاد. فالوصاية الأسدية على لبنان كانت أيضاً وصاية على سوريا.
واللافت، ظهور أشكال التطرف والإرهاب والعنصرية في أوروبا، تزامن وبروز ما يماثلها بعد الربيع العربي، مثل «داعش» و«النصرة»… على أنقاض «القاعدة».هذه الظهورات المتزامنة، تغذي بعضها، وتعوّم بعضها. لكن لماذا ظهر «داعش» مثلاً بعد دخول حزب إيران اللبناني إلى معترك الحرب؟ السؤال الثاني، لماذا لم يضرب «داعش» إلا السنّة، وكيف نفسّر صعوده الصاروخي وسط كل هذه الحروب في سوريا؟ وإذا تساءلنا عن سرّ عدم ضرب «داعش» لا إسرائيل، ولا إيران، ليركز إرهابه على الجيش الحر في البداية، وعلى السعودية. لنفهم نوازعه، ونتبين مراجعه: إسرائيل؛ لمَ لا!، إيران؟ أكيد؟ أتخاذل أوباما… طبعاً! أتساهل بوتين معه في بداية حروبه الداعمة للأسد؟ هذا واضح. ولماذا ركّز «داعش» مثلاً على الأنظمة الأوروبية التي أعلنت ضرورة رحيل الأسد، مثل فرنسا، وانكلترا؟ ولِمَ أحجم عن روسيا مثلاً؟ والواضح أنه عندما استُنفد دور «داعش»، ارتدّ عليه «بنّاؤه»، ورفعوه شعاراً، لا لمحاربته فقط، بل لاعتبار كل معارض إرهابياً داعشياً، حتى الجيش الحر في سوريا، وتيار المستقبل في لبنان… وصولاً إلى جرود عرسال والبقاع والقاع…
وإذا أردنا استكشاف خرائط الامبراطوريات القديمة المنبعثة من رميمها، كإيران الفارسية، وروسيا، وتركيا، نجد أنها في منطوقها ومستورها، وممارساتها، تصب في هذه المناحي الماضوية الارتدادية، إما نحو الخلافة المفقودة، أو نحو القيصرية الأرثوذكسية، أو نحو الامبراطورية الفارسية… وهذا من القضايا المهمة التي يمكن لحظها في هذا العالم الذي يذهب قسم منه إلى المستقبل اللامحدد، (التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والروبوات، وأبدية الإنسان)، وقسم إلى الماضي السحيق.. إلى العنصرية، والكانتونية والانطوائية، والقبلية، والقرون وسطية والتخلف.
كأن مجمل «الثورات» التكنولوجية غير المسبوقة باتت طريقاً إلى التقهقر الإنساني في علاقاته، وأنماطه، وانتكاسته. كأنما صارت التكنولوجيا الإعلامية والعسكرية أوتوسترادات واسعة إلى الماضي. وكأنما تكاثر وسائل التعليم، أدت إلى تكاثر التخلف الفكري، والاجتماعي، والسياسي… التي تتمظهر في الشعبوية المعممة التي صارت علامة هذا الزمن. وهذا بالذات ما حطم أسطورة التقدم التنويرية وإصلاح المستقبل، والأمن الاجتماعي، والتربوي، والعالمي.
حلّ الخوف من المستقبل محل التفاؤل به. وها هي الكرة الأرضية تتملكها هواجس الرعب والخوف. كأنما مشاعر النهايات، التي تتجلى في العودة إلى السلاح النووي، ومصائر النازحين، والمهاجرين، والمقيمين. ما من شيء بات مستقراً، تطور متسارع بوتائر التكنولوجيا، والأفكار السائبة، ورعب من مما هو آتٍ. وليزدوج الخوف من المستقبل ومن الماضي العائد بأحماله المجهولة. والحاضر؟ محطات غير ثابتة وسط قطارات خرجت عن سككها… تتصادم، وتتحكم، على مسافات من العدم، والارتياب والذعر.
إنها المرة الأولى في التاريخ التي يتنافى فيها الماضي والحاضر والمستقبل!
إنه الزمن السائل.

(*) كاتب لبناني




المصدر
المستقبل