عودة اللاجئين السوريين إلى المزرعة أم إلى الوطن!



كَثُرتْ، في الآونة الأخيرة، الأحاديث عن العودة إلى ما يُسمى “حضن الوطن”، وسبق ذلك الحديثُ عن بعض المبادرات التي دعتْ إلى عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، ولم تلق استجابةً تُذكر، على الرغم من ظروف اللاجئين المأسوية في دول اللجوء، ولا سيما لبنان الذي يعمل المسؤولون فيه على دفع اللاجئين السوريين عنوةً إلى العودة إلى سورية، بصرف النظر عن شكل وطريقة عودتهم، وذلك من خلال ممارسة الضغط والإكراه والتضييق والقهر ضدهم.

وإذا كان تصرّف السلطات اللبنانية مع اللاجئين السوريين مرفوضًا وغيرَ مقبول؛ فإنه يبقى أمرًا متوقعًا بالنظر إلى سيطرة “حزب الله” وهيمنته الواسعة على لبنان، وإن دعوات بعض السوريين إلى عودة اللاجئين إلى سورية، في ظل استمرار الأسباب التي أدت إلى تهجيرهم، وغياب أي ضمانات حقيقية تؤمّن لهم عودة كريمة، تبقى أمرًا غير مقبول، إلا أن الأمر المستهجن والمدان هو إعلان البعض ممن تصدّر العملَ السياسي المعارض عن نيتهم في العودة إلى سورية -وقد عاد بعضهم- واضعين عودتهم تحت مبررات وحجج واهية، أهمها ذريعة “محاربة الإرهاب”.

لستُ أنكرُ على أيّ سوري حقه في العودة إلى وطنه وبيته وأهله وأصدقائه، فمعظم السوريين الذين تهجّروا من سورية -إن لم يكن جميعهم- لديهم رغبة قويّة في العودة إلى وطنهم، وهو حق أصيل لا يستطيع أحدٌ حجبه عنهم، لأي سبب كان. ولكافة السوريين حق ممارسته في أي وقت ومتى يشاؤون، وهو حق نصّت عليه وكفلته كافة المواثيق والعهود الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي تغيّر في الوضع السوري؟ هل باتت الظروف مهيأة الآن لعودة اللاجئين إلى سورية؟ وهل زالت الأسباب التي دفعت مَن تصدروا المشهد السياسي المعارض سنوات طويلة، إلى الهروب إلى خارج سورية؟

على الأرض، لم يتغير شيء؛ فـ “حضن الوطن” لم يعد حضنًا لجميع أبنائه وبناته، منذ أن استولى “حزب البعث” على مقدرات البلاد، في انقلاب الثامن من آذار/ مارس 1963، ومن ثم تحويله، على يد الأسد الأب في سبعينيات القرن الماضي، إلى مزرعة خاصة بعائلته والمقربين منه، أصبح فيها المواطن السوري مُهانًا ومجردًا من أبسط الحقوق التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان، وبات فيها عنصر صغير في أجهزة الأمن يستطيع ممارسة كل الموبقات دون أن يجرؤ أحد على سؤاله: لِمَ فعلتَ ذلك؟ فيما المواطن يطأطئ برأسه مرعوبًا ذليلًا، لا حول له ولا قوة.

نعم، إنها “مزرعة” للأسد وعائلته، وقد كلّف هذا الوصفُ الدكتورَ عارف دليلة عشر سنوات من عمره في السجن؛ ثم تحوّلت هذه المزرعة في عهد الأسد الابن إلى حضن مشاع لكلّ من هبّ ودبّ من المسلحين والقوى الأجنبية، فيما معظم السوريين يبحثون عن وطن يحتضنهم.

ما يهم هنا، ليس من ادّعى معارضة نظام الأسد ويريد العودة إلى مزرعته، فأمثال هؤلاء لم يخرجوا قط من مزرعته، ومنهم من كان مكلّفًا -ربما- من النظام نفسه، بدور تخريبي، ومنهم من لم يقطع أساسًا ارتباطه بالمزرعة، تحسبًا للعودة إليها، وبعضهم الآخر التحق بالثورة وتصدّر فيها المشهد السياسي المعارض، ليس إيمانًا بالتغيير، بل لأنه وجد فيها ضالته لاقتناص دور له، بعد أن اعتقد خطأ بنهاية سريعة لنظام الأسد، وهذا النوع ليس لديه أي مشكلة في العودة إلى المزرعة التي اعتاد أن يلعب فيها الدورَ الذي يحدده ويرسمه له مالك المزرعة.

بل إن ما يهمني هم أولئك المواطنون العاديون من اللاجئين المنتشرين في بقاع الأرض، فقبل أن نُدين ونستنكر ونُخوّن مَن يودّ العودة منهم إلى مناطق سيطرة النظام، علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا يعودون بالرغم مما فعله النظام بهم، ومما قد يفعله بهم، عند عودتهم إلى مناطقه وليس إلى مناطق المعارضة؟ لنعترفْ بأن معارضة النظام العسكرية والسياسية فشلت فشلًا ذريعًا، في أن تُشكّل بديلًا أفضل من النظام نفسه، بل إنها ظهرت -في كثير من الأحيان- أسوأ منه، طبعًا دون أن نتجاهل مساهمة النظام والتدخلات الدولية وتأثيراتها السلبية في عمل المعارضة نفسها.

يُعاني اللاجئون السوريون الأمرّين في أماكن لجوئهم، ولا سيما في لبنان والأردن، والسؤال المطروح هو: من سيُؤمّن لهم سبل عودتهم، لو أنهم أعلنوا رغبتهم في العودة الآن؟ وكيف ستتم؟ ومَن سيضمن عدم تعرضهم لخطر الملاحقة والاعتقال، إذا كان السوريون الذين يعيشون، داخل سورية الآن، لا يأمنون على حياتهم؟ فعمليات الخطف والقتل في تزايد، ولا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن حادثة خطف في هذه المدينة أو عن عملية قتل في تلك المدينة؟ ثم من سيضمن عدم قيام نظام الأسد بسوق الشبان منهم إلى الخدمة العسكرية، لسد النقص الحاصل في صفوف جيشه، نتيجة عزوف الكثير من الشبان الذين يعيشون في مناطق سيطرته عن المشاركة في الخدمة العسكرية، مفضلين الهروب خارج البلاد أو الاختباء عن أعين المخابرات أو دفع الرشا الباهظة؟

ثم، إلى أين سيعود اللاجئون؟ هل إلى بيوتهم التي نُهبتْ محتوياتها وهُدمتْ حتى سويت بالأرض؟ ومن سيعوّضهم عن نهب بيوتهم وتدميرها؟ ومن سيضمن لهم توفير الحد الأدنى من المعيشة؟ إذا كان النظام نفسه بات عاجزًا عن تأمينها حتى للمواطنين القاطنين في مناطق سيطرته، والذين يئنون بدورهم من وطأة الجوع والحرمان وانقطاع المياه، والحرمان من الكهرباء.. إلخ، ونسمع أن كثيرين منهم يفكرون جدّيًا في طريقة تساعدهم للخروج من سورية.

إذًا، ما هو المطلوب منّا، في ظل تعذّر تأمين عودة اللاجئين إلى ديارهم؟ أنقفُ متفرجين، أم نعمل على تحسين شروط إقامة اللاجئين في أماكن اللجوء وتقديم العون لهم، ريثما تتوفر الشروط اللائقة لعودتهم، بما يحفظ كرامتهم وحقوقهم والتي يأتي في مقدمها وقف القتال نهائيًا، وإخراج كافة المسلحين الأجانب، وفي مقدمهم مسلّحو (داعش) و(القاعدة) وإيران و”حزب الله” وحلفاؤهم، وكذلك سحب جميع القوى العسكرية المتدخلة في الشأن السوري، وتسريع عملية انتقال سياسي حقيقي، تقطع الطريقَ إلى عودة كل أنواع الاستبداد والتطرف، والبدء بتشكيل حكومة مؤقتة كاملة الصلاحيات، تعمل فورًا على تهيئة الظروف الملائمة لعودة اللاجئين، كتأمين أماكن سكن بديلة ولائقة، ومنحهم التعويضات المناسبة عن بيوتهم التي نُهبت وهُدمت، وتوفير الخدمات الأساسية من أمنٍ ومأكل وملبس وماء وكهرباء وتدفئة وضمان حرّيتهم في الرأي والتعبير والتنقل، دون أي عوائق، وإطلاق سراح المعتقلين، والبدء بعملية إصلاح وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والجيش والقضاء وإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية، وفي مقدمها محكمتا الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب، وصياغة قانوني أحزاب وانتخابات جديدين وصولًا إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين السوريات والسوريين، على أساس مبدأ المواطنة المتساوية، بصرف النظر عن آرائهم ومعتقداتهم وأجناسهم وألوانهم.

وفي هذه المناسبة، يجب أن لا ننسى أبدًا مأساة المعتقلين، وأن نعمل على إنقاذهم من التعذيب الوحشي والقتل اليومي في مسالخ وزنازين مخابرات الأسد والفصائل المسلحة.




المصدر
ميشال شماس