وما زال يتدحرج



قال الراوي العليم الذي يروي الحكايات في الروايات:

خرج الحَجّاج بن يوسف الثقفي ذات مساء متخفيًا بزيّ درويش، يتجوّل في أحياء المدينة، ليطمئنّ على أحوال البلاد وشؤون العباد، فوصل إلى المسجد لحظة انتهاء صلاة العشاء، فدخل، ثمّ اندسّ ما بين الصّفوف؛ فإذا به يرى أحد المصلين، لمّا يزل باسطًا كفّيه أمام عينيه، مطأطئًا رأسه، وهو يتمتم بصوت خفيض:

“اللهمّ، يا ربّ العالمين، احمني، وأهلَ بيتي، من ظلم الحجّاج، وعيون الحجاج، وظلال الحجّاج، وظلمة سجون الحجاج. إنّك على كلّ شيء قدير”.

فتظاهر الحجاج أنّه لم يره، ولم يسمعه. ولم يتصرّف بما يوحي بأي شبهة، ثمّ احتال حتى عرف اسم الرجل، ومن يكون، وإلى أيّ قبيلة وعشيرة ينتسب. بعد ذلك انصرف مغادرًا مثلما دخل، دون أن يدري بحقيقة حضوره أحد.

في اليوم التالي، أرسل الحجّاج في طلب الرجل. ولمّا وقف بين يديه، سأله:

هل تعلم لماذا جئت بك إلى ها هنا، يا عبد الله؟ لا والله، يا حجاج! لكنّني لا أرى في هذا خيرًا على أيّ حال!

أجاب الرّجل.  فقال الحجاج:

حسنًا! سوف أترك خبر هذا الآن. لكن أنت خبّرني -بربّك- عمّا تعرفه في الحجاج من ظلم، أو تسمعه من قسوة، أو ترويه للآخرين من عيوب!

قال الرّاوي: ليرى الحجاج إلى مدى تطابق مظهره مع مبطنه، أو تخالف ما يبدي مع ما يخفي.

فأطرق الرجل صامتًا ولم يجب. فأعاد الحجاج السّؤال ثانية بهدوء:

–   “ألا خبّرني، بربّك، عمّا تعرفه في الحجاج من ظلم، أو تسمعه من قسوة، أو ترويه للآخرين من عيوب!”.

فاستمرّ الرّجل في إطراقه، ولم ينبس ببنت شفة، كما لم تبدُ عليه أيّ علامة من علامات الخوف، التي غالبًا ما تستولي على الرجال في مثل هكذا حال. فقط أطبق فمه وطأطأ ولم ينطق.

فأعاد الحجّاج السّؤال للمرّة الثّالثة، وقد آل المجلس إلى حالة من الترقّب، والصمت الرّهيب. فهم يعلمون ما تستبطنه كلمات الحجّاج من معاني:

“ألا خبّرني، بربّك، عمّا تعرفه في الحجاج من ظلم أو تسمعه من قسوة أو ترويه للآخرين من عيوب!”.

عندئذ، رفع الغريب بصره إلى الوالي محدّقًا إليه:

أمّا وقد بلغ الطلبُ الثّلاثة! فلا بدّ من الكلام:

والله، يا حجاج! ليس سكوتي هو سكوت خوفٍ، أن لا آمن على نفسي منك! لكنّ سكوتي هو سكوت خوفٍ أن يسبقني رأسي إليك، قبل أن أتمّ كلامي فيك؟

وشرع يتحدّث في عيوب الحجّاج عيبًا وراء عيب، ويفصّل في ذلك تفصيلًا، فيه من الجرأة مثل ما فيه من المغامرة، مثل ما فيه من الوضوح، مثل ما فيه من الصدق.

لكنّ الغريب لم يُتمّ كلامه فعلًا، كما توقّع، لأن رأسه لم ينتظره، بعد أن طاح من أعلى كتفيه مغادرًا جسده مبتعدًا عن الحجاج.

وجعل يتدحرج.

بسرعة يتدحرج، بهدوء يتدحرج..

في مجلس الحجاج يتدحرج..

ثم في ساحة القصر يتدحرج..

ثمّ القصور، ثم البلاطات

ثم في دروب الحيّ. ثم في مضارب العشائر.

ثم في أرباض الكوفة، ثم البصرة، ثم بغداد، ثم دمشق، ثم القاهرة..

ثم يتدحرج في الأقطار، ثمّ الأمصار، ثمّ أنظمة الحكم..

وما زال يتدحرج، في حكايات ألف حجاج وحجاج.

أضاف الراوي العليم، الذي لم يملّ من رواية الحكايات في الروايات:

وما زال رأس ذلك الأعرابي يتدحرج.

البارحة، رأيته في البوادي يتدحرج، ورأيته في الحواضر يتدحرج..

واليوم، أراه في المدن والعواصم والشوارع والطرقات، يتدحرج..

البارحة، رأيته كيف كان يتدحرج، واليوم أرى إلى سلالته كيف صارت بدورها تتدحرج..

دون أن يدري أحد بعد، متى تتوقف هذه الرؤوس عن الدحرجة!

أو دون أن يدري أحد بعد، متى تتوقف هذه الملوك عن الحجحجة!!




المصدر
عبد الحميد يونس