المرايا المتحركة



بدا لي أني تأخرتُ بعضَ الوقت عن موعد الاجتماع؛ فدخلت قاعة الاجتماع مسرعًا، استقبلني رجلٌ غير الذي كان يستقبلنا عادةً.. رجلٌ لم أقابله من قبلُ في المركز، ولكنه كان يشبهني جدًا إلى حدّ التطابق، كأنه أنا، أو كأني هو، أو كأن كلانا واحد! وأخذ يمشي أمامي ويرشدني إلى المكان المخصص لي، وأنا مذهول بهويّة هذا الرجل وشخصيته، انحنى أمامي قليلًا وهو يمدّ يمناه مشيرًا إلى مقعد، وقال: تفضل، أستاذ، هو ذا مقعدك، وسيبدأ الاجتماع بعد نصف ساعة، بسبب تأخر السيد المدير، وقبل أن يبتعد، قال: يمكنك أن تخرج إلى الصالة أو الشرفة حتى ذلك الوقت. انصرف الرجل شبيهي، وتركني مشدوهًا وراءه أتفكر في سرّه المحيّر. شعرت بصداع خفيف من زحمة الأفكار؛ فرأيت أن أخرج بعض الوقت إلى الشرفة، حيث أشار شبيهي، علّي أرى من أعرفه أو يعرفني، أو أيّ أحدَ آخر غير هذا الرجل المريب. خرجت؛ فرأيت عددًا من الرجال.. نحو عشرين رجلًا أو يزيد، بين واقف وقاعد ومتكئ، وعندما رأوني؛ استقاموا على هيئة واحدة؛ تفاجأت بأنهم يلبسون مثل ما ألبس تمامًا.. الطقم ذاته، والقميص، وربطة العنق، وكل شيء.. دنوت من أحدهم، لأجد منفذًا يخرجني من قلقي، فرأيته هو الآخر يشبهني، إنه بعمري، وبطولي، وبوزني، وبِلوني! بادرته بالسلام؛ فرده كما قلته، دون زيادة أو نقصان، يا للغرابة! إن له صوتي نفسه ونبرتي ذاتها، كما أن له شكلي وتفاصيلي، فررت منه ودنوت من آخر غيره، فإذا هو كالأول مثلي تمامًا؛ تبسمت في وجهه، ففعل ما فعلت. تركته وفزعت إلى ثالث ورابع وخامس وعاشر.. وكلهم يحاكيني بكل تفاصيلي، كلهم كان مثلي تمامًا؛ شعرت برعب طاغ يطوقني.. ويثخن حركتي. يا إلهي ما هذا؟ ومن هؤلاء؟ وكيف يلبسون مثل ما ألبس: القميص نفسه والبنطال ذاته، ويحملون الحقيبة ذاتها.. وقفت مذهولًا أبحث عمّا يميزني منهم، عمّا يخرجني من هذه الحيرة التي بدت لي بئرًا عميقة، نظرت أعلى فرأيت لهم شعرًا كشعري وقد سرّحوه بالطريقة ذاتها، نظرت أسفل إلى أحزمتهم إلى أحذيتهم، فإذا هي كلها كحزامي وكحذائي، تجمدت من الخوف، أريد أن أجد فرقًا.. أن أخلق فرقًا واحدًا على الأقل، فرقًا يعيد الطمأنينة إلى قلبي والأمان إلى نفسي. أخرجت القلمَ الذي أهدتنيه سعاد، يوم افترقنا في بيروت، فأخرج كل منهم قلمًا كأنه قلمي، وضعت نظارتي على عيني؛ ففعلوا فعلي، جعلت أكتب جملة على آخر ورقة في دفتري؛ فجعلوا يكتبون على آخر ورقة في دفاترهم، تركت قلمي، تركوا أقلامهم، مزقت ورقتي، مزقوا أوراقهم. يا غياث المستغيثين، أغثني، ونجّني من هذا الكرب العظيم، كلما تحركت حركة أتوا بأختها، اشتد الصداع اشتدادًا رهيبًا ما عرفت مثله من قبل، فضغطت على صدغيّ بكلتا يديّ وجعلت أفركه؛ فضغط كل منهم على صدغيه بكلتا يديه وجعل يفركه. شعرت بأني جُننت أو أكاد. ولكني لست مجنونًا؛ فأنا ما أزال أملك أن أفكر وأختار وأفعل. أردت أن أتأكد من قدرتي على التحكم بما أفعل؛ تشجعت وتبسمت ابتسامة ساخرة، فتبسموا مثلها. يا إلهي، إنها البسمة التي تبسمتُ ذاتها، بحركة شفاهي ذاتها، ضحكت.. ضحكوا، يا إلهي! إن لهم شكل أسناني نفسه، حتى إن الناب الأيمن منها بدا متراجعًا كما نابي. مددت يدي لأخرج سيجارة من جيبي، ففعلوا ما فعلت، أشعلتها أشعلوها، نفثت الدخان إلى أعلى وإلى أسفل وفي كل اتجاه، وكان الرجال المرايا لا يتأخرون في فعل كل ما فعلت. أيْ ربّي، من هؤلاء؟ بحق النعيم.. بحق الجحيم! أهؤلاء رجال حقيقيون أم هم ظلال رجال أم هم مرايا متحركة؟ أهؤلاء أنا أم أنا هؤلاء؟ نسيتُ أين أنا ومن أنا! ثم تذكرت أني دخلت من باب.. نعم، ثمة باب.. توجهت نحو الباب لأخرج؛ فتوجهوا معي، توقفت؛ توقفوا، عدت أدراجي إلى المقعد، فعادوا، جلست فجلسوا. امتلأ قلبي فزعًا، رجعت إلى الباب، وقد أضمرت في نفسي الهروب، رميت الحقيبة والمعطف ورائي، وركضت ركضت ركضت بكل قوتي نحو الباب؛ فتراكضوا خلفي، خرجت وأنا أصرخ: اتركوني.. دعوني وشأني. أنا لست أنتم.. أنتم لستم أنا. أنا لست أحدًا منكم.. أنا لست غيري.. أنا أنا.. أنا أنا… أنا أناااااااااا.

شعرت بيدٍ تضرب خدي، وبصوت مألوف يهتف بلهفة: انهض، ما بك؟ ماذا جرى لك! استفقت مذهولًا، رأيتُ أمي قربي، ورأيتني مستويًا على سريري في البيت، فتحتُ النافذة، وتنفست بعمق وزفرت بعمق أكبر. حدّقت في وجوه الناس، في أشكالهم، في ثيابهم، في وجهاتهم، رأيتهم مختلفين تمامًا، لا أحد يشبه أحدًا. لكل منهم شكله، لونه، لباسه، صوته، نظرته، مشيته، شأنه، ووجهته. لم أر أحدًا كأحد؛ رفعت يدي إلى السماء وتنفست الصعداء، وقلت: الحمد لله.. الحمد لله.. لا أحدَ كأحد.




المصدر
حمدي المصطفى