تأهيل النظام أم تأهيل سورية والسوريين!



المعطيات المعقّدة لمشهد الصراع المتداخل دوليًا وإقليميًا، والتسليم للواقع العسكري الحالي في سورية، والذي يميل فيه ميزان القوى بصورة كبيرة إلى قوات النظام وحلفائه، باتت تلقي بظلالها على الواقع السوري. وعلى الرغم من استمرار تعثّر المسار السياسي في جنيف وأستانا الهادف إلى التوصل إلى اتفاق سلام سوري؛ إلا أن المشهد السياسي يشير إلى ارتفاع وتيرة التوجهات السياسية الدولية والعربية، نحو إعادة تأهيل النظام السوري، ليشكّل عنوانًا عريضًا للمرحلة القادمة، في حياة الشعب السوري ووجوده.

مع اقتراب نهاية تنظيم (داعش) وتوجّه أنظار السوريين إلى تأمّل ما يُفصِّله الآخرون من حلول، لهذا البلد الغارق في الحرب؛ توالت التصريحات الغربية التي تشير نحو “المنتصر”، وآخرها تصريح مبعوث الأمم المتحدة لمحادثات السلام السورية ستيفان دي ميستورا من جنيف، بأنّ على المعارضة السورية قبولَ فكرة أنها لم تنتصر في الحرب، كما تسارعت الخطوات العربية التي تشير نحو الانتقال من التنسيق الأمني الاستخباراتي الذي كان ملازمًا لعلاقات النظام مع بعض دول الإقليم، بشكل غير معلَن، إلى الانفتاح على النظام والتمهيد لإعادة العلاقات معه، مثل زيارة تسعة من أعضاء البرلمان التونسي لسورية في 5 آب/ أغسطس 2017، بعد قطيعة مستمرة منذ 2012، في إثر إعلان الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي قطع العلاقات الدبلوماسية مع سورية، ومشاركة نحو 40 دار نشر عربية من لبنان والعراق ومصر والسعودية وفلسطين والأردن، في الدورة 29 لمعرض دمشق للكتاب، والمشاركة الرسمية لبعض الوزراء اللبنانيين في معرض دمشق الدولي، وغيرها من الخطوات التي تم الإقدام عليها، بالرغم من غياب التنسيق في المواقف السياسية بين حكومات هذه الدول العربية وسورية، واعتبارها أن حكومة بشار الأسد لا تملك شرعية داخلية ولا عربية ولا دولية.

التصريحات الغربية، والتوجهات العربية نحو الانفتاح على الحكومة السورية، لا يمكن عدّها خطوة جديدة أو تقويمها بأنها كذلك، في ظلّ تراجع مؤشر العداء للنظام من قبل الكثير من الدول، وقد بانت ملامح ذلك التراجع مع اتساع رقعة الجهاديين، وارتفاع عددهم والخوف من عودة الجهاديين إلى بلدانهم، ومع ازدياد تدفّق اللاجئين السوريين، والأزمات الضاغطة خصوصًا على دول الجوار: لبنان والأردن وتركيا، لكن الانتقالَ من تراجع العداء إلى التصريح -بالفم الملآن- بالقبول بالنظام السوري الذي يقدّم لهذه الدول بعضَ الراحة في مسألة اللاجئين الضاغطة، ومراقبة عودة الجهاديين، ينمُّ عن التغاضي عمّا سينجم عنه من تعقيدات وانقسامات سياسية، في بعض الدول العربية مثل لبنان، أو رفض البرلمان التونسي التصويت لصالح مشروع إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية، أو ما يرافقه من مخاوف الدول العربية، من تمدد نفوذ طهران في الإقليم، بعد أن تمكنت من تثبيت نفسها في سورية، والأهم التغاضي عن الواقع السوري الذي ما زال غير مؤهلًا لعودة اللاجئين، وتجاهل أن جزءًا كبيرًا من اللاجئين مطلوبون للنظام على خلفية المعارضة السياسية، وأكثر من هذا باتوا مهددين من قبل قوات النظام التي “لن تسامح”، حسب تصريحات العميد الركن عصام زهر الدين قائد قوات النظام في دير الزور.

بالنظر إلى الحالة السورية؛ فإن التوجّه إلى تأهيل النظام -بعد سنوات عجاف أودت بحياة نصف مليون سوري، وخلّفت مليون مصاب بسبب الحرب، وشردت 13 مليون سوري، بين نزوح ولجوء- يهدف بالنتيجة إلى تحضير السوريين للمرحلة القادمة التي يشكّل النظام أحد دعائمها، والتمهيد للقبول به وتقبّل بقائه، بغض النظر عن آراء العديد من تكتّلات المعارضة الرافضة لوجوده، وهو ما يضع سورية والسوريين كلهم أمام استحقاق آخر، قد يكون أشدّ خطرًا مما مرّ به في سنوات الحرب، فالأزمات العميقة على صعيد الدولة والمجتمع على حدّ سواء بعد سنوات الدمار، وتهديم ما يقارب نصف البنية التحتية، وانهيار الاقتصاد، والأرقام القياسية بالجوع والفقر والتشرد، والانفلات الأمني الذي وجد غطاءه ومبرراته بحجة الحرب، خصوصًا بين أتباع النظام “الشبيحة” التي انحدرت لممارسة القتل والنهب، من دون رادع في ظل الغياب المستدام للقانون والصلاحيات الممنوحة للأجهزة السلطوية، وغيرها من المشكلات، لم تلقَ أي التفات نحو معالجتها، بل أعلن عن إطلاق ما سمي “المشروع الوطني للإصلاح الإداري”، لخلق منهجية واحدة ومتجانسة لكل الوزارات؛ ما يشكّل التفافًا على معاناة السوريين وألمهم المرير، في الداخل وفي الشتات، فملف الإصلاح الإداري والاقتصادي ومكافحة الفساد الذي شكّل بداية حكم الرئيس بشار، انتهى قبل البدء به، ولم يقدّم للسوريين سوى المزيد من الاستنزاف على كافة المستويات المعاشية، والإصلاح الإداري الذي تم إطلاقه في 20 حزيران/ يونيو الماضي هو تجاهل لأساس المشكلة السورية المتمثل بثنائية الاستبداد والفساد، وتأهيل السوريين لاستعادة الصورة العاتمة التي عاشوها سابقًا بكل قسوتها، وإعلان الانتصار على المجتمع الذي أصبحت فيه السلامة هدف للجميع.

الواقع السوري المتردّي لن يُنهيه مجرد الإقرار بنهاية الحرب التي لم تنتهِ حتى الآن؛ فتصفية الحسابات بين الدول ما زالت مستمرة على الأراضي السورية، ولن يُنهيه إعلان انتصار النظام؛ فالانتصارات العسكرية عززت النفوذ الروسي والإيراني، وجعلت سورية أكثر ارتهانًا “للحلفاء”، وهذا “الانتصار” المُبشَّر به سيكون انتصارًا ساحقًا وكاملًا، وستعمّ السكينة ويسود الاستسلام والركون، ويعود السوريون إلى بيت الطاعة، وإلى الاختباء خلف جدران الخوف والرعب؛ ما لم يتم العمل من قبل السوريين كلهم على ضرورة التحوّل الديمقراطي، وتحصين البلد جيدًا، وتطبيق العدالة ومحاسبة الجناة، وإعادة الشعب السوري بكل أطيافه، إلى أخذ دوره الفعّال في وطنه، وتعديل الدستور بما يتلاءم وتطلعات المجتمع السوري كاملًا.




المصدر
هوازن خداج