سلطة الأسد.. بنية استبداد فريد لا يشبه سوى نفسه



ليس الغرضُ من الكتابة في هذا الموضوع عرضَ أشكال التوحش والقتل والإيغال في دماء السوريين، وتحديدًا بعد ثورتهم من أجل الحرية، وهو توحش قلّ نظيره في حظائر الاستبداد في بلاد كثيرة، ولا الوقوفَ حيال “فلسفة” بشار العنصرية المنحطة والقذرة في تحديده لهوية السوريين على “مسطرة التجانس”، وهي امتداد لمقولة ساقطة ورعناء، أدلى بها قبل أكثر من سنتين، بتحديده أنّ السوري هو من “يدافع” عن “الوطن”، وتعني من يحمل السلاح في أحد التشكيلات الفاشية المحلية والخارجية لحماية السلطة. ولم يكن الحافز على الكتابة هو فرادة استبداد سلطة الأسد، لقيامها بتسليم سورية ومقدراتها للقوى الدولية الكبرى والإقليمية، وتصاغرها حتى إزاء جماعات إرهابية فاشية طائفية، كـ “حزب الله وأشقائه” الطائفيين.

خلال مراجعاتي لتجارب الأنظمة الشمولية في القرن العشرين؛ وجدت ضرورة للوقوف إزاء نموذج الشمولية لسلطة آل الأسد الجاثمة، منذ ما يقرب من نصف قرن، على صدور السوريين، بقسوة ووحشية لا توصفان.

ولأن النظام الشمولي في رومانيا، في عهد الطاغية شاوشسكو، هو الأقرب إلى نموذج سلطة الأسد؛ أستعيدُ، من اللحظات الأخيرة لسلطة شاوشسكو، ما قاله له وزير دفاعه، حين طلب منه فتح النار على أوسع نطاق، من دون رحمة أو تردد، على الشعب الذي انتفض في الساحات:

“وهل يمكن قتل الشعب كله!” حينذاك؛ اضطر الطاغية إلى الفرار، إلى منطقة توهم أنه يستطيع فيها إعادة تجميع قوات موالية له، لإنهاء انتفاضة الشعب الروماني؛ فألقى عليه القبض نفرٌ من الفلاحيين، وسلموه لقوات الجيش المناهضة له، ليلقى مصيره بمحاكمة عاجلة، تشبه أسلوبه في ممارسة الإعدامات ضد معارضيه، طوال عقدين من الزمن. واحتفل الرومانيون برأس السنة، واستقبلوا العام الجديد، وبوخارست بلا طاغية.

صحيح أن رومانيا بعد سقوطه لم تمض إلى الرخاء والازدهار والتقدم، لكنها -وهو الأهم- تجنبت حمامات دم في البلاد، ولم تدمَّر مدنها، ولا جرى ترحيل السكان وتهجيرهم، وما إلى ذلك من فظاعات، أقدمت عليها مافيا السلطة المتوحشة التي أسسها حافظ الأسد، ورعاها وريثه من بعده.

ما أوردتُه آنفًا يطرح السؤال: لماذا لم يخرج وزير دفاع في سلطة الأسد، أو رئيس أركان لجيشه، ليقول له: لا يمكن قتل الشعب! وحين تهامس بعض أعضاء ما سمّي “خلية الأزمة” بضرورة تأخير مشاركة سلاح الطيران المقاتل في ضرب المدن الثائرة؛ تم قتلهم بدم بارد وبصمت، وبعد اغتيالهم؛ دخلت السوخوي والميغ المعركةَ ضد المدنيين، أو ضد مسلحين بأسلحة خفيفة أو متوسطة.

في كل البلدان الشمولية في أوروبا الشرقية، نشأت صراعات وجرى قمعها، وفي لحظات نوعية ومصيرية، في أواخر الثمانينيات، تنوعت أشكال القمع؛ لكنها لم تصل إلى حد الجرائم بحق مئات الآلاف من الناس، وفي بعضها (بلغاريا وبولونيا وهنغاريا) تكفلت أجنحة من قيادات الأحزاب في تلك البلدان بمواكبة الحاجة إلى التغيير، وأقدمت على الإجراءات التي تكفل التغيير من جهة، وتمنع حدوث مواجهات دموية تقودها الجيوش من جهة ثانية. في بلغاريا، جاء التغيير بانقلاب على جوفكوف من داخل الحزب، وفي بولونيا رضخ الحزب الحاكم لنتائج الانتخابات التي أطاحت بالنظام الشمولي، وفي هنغاريا تكفل قادة في الحزب بطرح الإصلاحات التدريجية، وأعادوا تشكيل الحزب على أسس جديدة، تضمن مستوًى معقولًا من ديمقراطية الحياة السياسية.

نظام آل الأسد الذي انقضّ على السلطة، قبل نصف قرن، لم يترك نافذة صغيرة في بنيته تتيح أيّ مرونة، ولو كانت محدودة جدًا، في معالجة التناقضات الداخلية، سواء تلك التي نشبت داخل بنية السلطة، أو التحركات والنشاطات السياسية للأحزاب والفاعليات المعارضة.

كانت سلطة الأسد الأب تستأصل من داخلها كل من يهمس همسًا، وهو يعبّر عن رأيه بقضايا السلطة أو طريقة إدارة شؤون البلاد. ولعل مصير الشخصيات التي كانت جزءًا من السلطة، يُظهر عملية التأسيس المبكرة لأشد أنواع الاستبداد في القرن العشرين. ومعروفة أسماء عدد من الضباط الكبار الذين واجهوا مصيرهم بالموت أو الاعتقال المؤبد، والمحظوظون منهم غادروا البلاد بصمت، ولم يبق لهم أي أثر في السلطة، أو في الحياة العامة.

لقد كان مفترق الصدام بين الشقيقين (حافظ ورفعت) مؤشرًا على نموذج السلطة التي يريد الأسد الأب ترسيخها، ويومها، بعد اتفاقهما على حل يكسب منه الطرفان؛ برزت دعوة من داخل الحزب ومؤسسات السلطة تقول: بضرورة تأسيس “حزب الحافظيين”، بدلًا من “السلطة الأسدية” أو “حزب البعث القائد”، ولم يتم تبنيها علنًا، لكن حافظ أسد عمل عليها بتأسيس تاريخ سورية السياسي لحكم السلالة، فبعد موت باسل، شرع يُعِدّ ابنه بشار ليتسلم السلطة من بعده. وقد دفع رئيس الوزراء السوري الأسبق، محمود الزعبي، حياته ثمنًا لتساؤله بغرفة مغلقة: أليس في الحزب أشخاص آخرون لمنصب القيادة؟

الأمر المهم الآخر، في تاريخ بناء سلطة عائلة الأسد، هو منع وجود “الرجل الثاني”، كما هو حال البلدان الأخرى، حتى الشمولية منها. فقط هناك “الأول”، والبقية من القيادات يتدرجون من العاشر وبعده. ومنصب نائب الرئيس كان أكبر كذبة، كما بدا واضحًا في مصير خدّام بعد موت حافظ، أو في مصير فاروق الشرع بعد تصريح يتيم، جاء بشكل سجالي، لأحد قادة المعارضة، أعلن فيه القبول بأن يكون الشرع رجلَ المرحلة الانتقالية.

الفائدة من كل ذلك، أن هذه السلطة غير مهيأة لأدنى تعديل أو إصلاح، لا من داخلها، ولا استجابة لضغط الشارع الذي لم يكن يرفع، يومَ انتفض، شعار إسقاط النظام.

واليوم، حين تحاول بعض الدول الكبرى تمرير أجنداتها، بادعاء إمكانية الإصلاح، والسير نحو التغيير التدريجي، هي مخادعة أو مخدوعة، أو الاثنتان معًا. إضافة إلى أن إلقاء المسؤولية على الشعب في تحوّل المواجهة نحو العنف والعسكرة، أقل ما يقال فيه -مع افتراض حسن النية- أنه كلام يدل على جهل وغباء.

خلاصة القول: إن هذه السلطة بطبيعة بنيتها، وبأدوات عملها لضمان بقائها، وبتجربة ما يقرب من نصف قرن، هي سلطة طغيان فريد من نوعه في هذا العصر،  وإذا لم تسقط  من رأسها حتى أخمص قدميها، فلا أفق في سورية لإنقاذ الشعب من الموت، وحماية البلد من التمزق والتقسيم. ومن العبث والوهم الاعتقاد بتحقيق الأمن بأبسط معانيه في حال بقائها.

إن رفض السلطة، وحلفائها الدوليين، لأي كلام عن مرحلة انتقالية لا دور فيها لبشار، هو ليس حبًا ببشار، بل هو كلام العارفين باستحالة بقائها، إذا حصل أي تعديل بسيط على تكوينها وآلية عمل أدواتها، أو المساس الجزئي بمرتكزاتها.




المصدر
مصطفى الولي