أنا ناظم .. أنا شاعر



في عام 1985 مع بداية المرحلة الثانوية، عرفتُ ناظم حمادة. في أول لقاء بيني وبينه في حصة الاستراحة، سألني عن اسمي، وبماذا أحلم، أجبته وسألت: وأنت؟. فأجاب: “أنا ناظم.. وأنا شاعر”.

لاحقًا، كما الشبان جميعًا، كنّا جزءًا من مجموعة رفاق تشتتوا -فيما بعد- كلٌّ في طريق، كانت تلك المرحلة تشهد بدايات عهد جديد من تكريس القمع الأبدي لسلطة النظام (نهاية الثمانينيات)، بالطبع لم نُدرك وقتها ذلك، لكننا جيل عايش، منذ تفتّح وعيه، أحداثًا كبرى قاسية، كحرب بيروت ومجزرة حماة، كانت مشاعرنا مليئة بالسخط المغلّف بسخرية، وجدنا فيها سبيلًا لإيجاد ممرات لأحلامنا الكثيرة.

ولأن الوصايا تقول إن “الحيطان لها آذان”؛ التفتنا مرة أخرى إلى القراءة والكتابة والدراسة، والعيش في عوالم ومدن مُشتهاة، كان أوّلها دمشق التي نحلم بها، وهربنا كذلك إلى الفنون جميعها؛ علّها تساعدنا نحن -الاثنين- على درء الانغماس في التشابه.

بعد فترة قصيرة، بقينا تقريبًا وحدنا، ترافقنا الرغبة في الاختلاف وممارسة الحياة بحرّية، والبحث عمن يشبهنا، وعن سيناريوهات لا تنتهي، مرة نصبح ممثلين وأخرى كاتبين وثالثة ورابعة.. وهكذا عشنا في “حوارات” المسرح والسينما والأغاني.

بعد سنوات تلت ذلك، تخذل الظروف “ناظم”، بطريقة مذهلة: التعثر الدراسي.. تدهور وضع الأسرة الاقتصادي.. العمل في أماكن تستهلك كلّ ما هو جميل لديه.. لعنة الأخ الأكبر.. الخدمة العسكرية وشياطين الحياة الأخرى في دمشق.

وهكذا كان؛ ابتعد ناظم عن الجامعة مُرغمًا، لكنه اشتغل بصمت على بناء رؤيته الأخلاقية والمثالية عن الحياة والآخرين، وعن سورية التي يريد، في الشعر والرواية والمسرح، وفي كل ما يمكن أن يطرد القباحة من تفاصيل حياته القاسية؛ كان هذا كفيلًا بتشكيل ناظم الذي يعرفه الجميع.

وماذا بعد!

كان لا بدّ من وجود من يشبهنا أيضًا. اتسعت دائرة المقهورين والحالمين معنا، لكنه كان الأكثر وضوحًا في ما يريد، والأكثر تعثرًا كذلك.

في مخيم اليرموك: هنا عادل الجميل، وسعاد الطامحة، وخالد غريب الأطوار والمتمرد أبدًا.

في مخيم السبينة: لا بأس بالمناكفة الدائمة مع راشد المشاغب، وحسين، والرفاق الجميلين هناك.

في برزة: حين تأتي “ندى صبح” في زياراتها السنوية؛ تكون تلك الأيام خارجة عن نص الحياة اليومية في دمشق.

ثم بين منزلي ومنزل صديق استثنائي، هو “وائل الحركي”، في حي مغرق في عشوائيات التضامن جنوب دمشق.

ودائمًا كان الشعر يرافقنا. لم يكن يُخبئ قصائد للنشر وما إلى ذلك، كما يفعل البعض، بل كان يُلقي علينا أحدث ما يكتب بطقس خاص به: يتنحنح، يشرب الماء، يشعل سيجارته، ويأخذ نفسًا عميقًا، ثم ينظر إلينا جميعًا، ويُلقي الشعر بصوته وطريقته المميزة. كان الشعر يسكنه، كيف لا، وهو من كتب مرة: “سنذهب إلى العمل مسرعين في الصباح.. ونحن نفكر بالشعر”.

عندما نشر مجموعته الشعرية الأولى (أوراق التوت الغامضة)، قدّم لي نسختي الخاصة، وكتب في بدايتها الآتي: “حسام: أنا ناظم.. وأنا شاعر”.

مع ربيع دمشق، بدت الفرصة سانحة لإزاحة سواتر المدينة الـتي تحاصرنا. كانت مرحلة مفصلية في حياة ناظم بشكل خاص، انتشَلته من مرحلة يأس كانت الأصعب في مراحل حياته التي أعرفها. دخلت رزان زيتونة ووائل حمادة وخليل وسميرة والآخرون في حياته؛ لتصنع تلك العلاقات مفعول السحر.

قبل قيام الثورة بأربع سنوات، أصبح ناظم محاميًا، وبدأ بممارسة مهنته والعمل في الشأن العام.

خلال سنوات الثورة، لم أرَ ناظم كثيرًا؛ التقينا بضع مرات في بيوت كانت تتنقل إليها رزان، وأحيانًا في الشارع. نزح أهالينا باتجاهات مختلفة، هاجر البعض، وبقي البعض الآخر.

اختُطف ناظم والأصدقاء معه، واعتُقلتُ، بعد وقت وجيز. وبعد خروجي؛ هربت إلى تركيا لا أحمل شيئًا، سوى نسختي من مجموعته الشعرية المنشورة.

عرفت أن والد ناظم قد توفي، وأن عائلته انتقلت لتعيش في قريتهم في ريف إدلب. لكنّ حظي الطيب كان وجود أخته الرائعة “ميساء” جارة لي، في غازي عنتاب، ثم في إسطنبول. على الأقل أرى وجهه وأسمع صوته ومزاحه في كلامها.

صوت ناظم يحيط بي..

أهاتف أمه وإخوته كل حين لأتأكد أني على قيد الحياة.

في الأشعار التي كتبها، نُحاول جميعًا مقاومة النسيان، هذا إن غاب عن الذاكرة للبعض منا.

الآن، وكلما حاولت استحضار صورة ناظم “الذي كنت أراه يوميًا تقريبًا”، لا يحضرني سوى ذلك المشهد في “ثانوية اليرموك”، ونحن نلبس الزيّ العسكريّ الدارج -آنذاك- وهو يعرّف بنفسه لي:

أنا ناظم .. وأنا شاعر.

_________

(*) من تقديم المجموعة الشعرية (ضدّ) للشاعر ناظم حمّادي التي ستصدر قريبًا عن دار (ميسلون).




المصدر
حسام السعد